اخر الاخبار

يرزح الاقتصاد العراقي تحت وطأة اختلال التوازن بين الإيرادات والنفقات، وتضخم الإنفاق التشغيلي، وتآكل الاحتياطيات النقدية، إضافة إلى الهشاشة وسوء التخطيط في إدارة الموارد، برغم محدوديتها، وعدم خضوع غالبيتها لرقابة الدولة.

وتشير المعطيات الراهنة إلى وجود أزمة هيكلية تتفاقم بفعل السياسات المالية غير المنضبطة وضعف الإدارة الحكومية. اما الاسباب التي قادت الى ذلك، فيربطها مراقبون بازمات اخرى غير بعيدة عن سوء الإدارة، والفساد، والتدخلات السياسية في مفاصل الدولة الاقتصادية، والهبوط الراهن لأسعار النفط عالميا.

مؤشرات مقلقة

وكشف البنك المركزي، اخيراً، عن انخفاض الاحتياطي الرسمي أكثر من 11 تريليون دينار خلال عام واحد.

جاء ذلك في احدث تقرير للبنك حول المؤشرات المالية والنقدية في العراق في شهر شباط 2025، موضحا ان "الاحتياطي الرسمي بلغ في شباط 127.20 تريليون دينار منخفضا بنسبة 8.21 في المائة عن نفس الفترة من العام الماضي الذي بلغت فيه الاحتياطيات 138.570 ترليون دينار وهو بذلك يفقد 11 تريليونا 370 مليار دينار".

واضاف المركزي في تقريره ان "الدين العام الداخلي انخفض في شهر شباط عام 2025 الى 82.81 تريليون دينار، مقارنة بشهر كانون الثاني الماضي الذي كان قد بلغ فيه 83.04 تريليون دينار، مؤشرا ارتفاعا ملحوظا بالمقارنة مع شهر شباط من عام 2024 الذي كان قد بلغ فيه 73.75 تريليون دينار".

عجز وتخبط مالي!

في هذا الصدد، وصف عضو اللجنة المالية النيابية، جمال كوجر، الحالة الاقتصادية للبلاد بانها “سلبية”، مشيرا الى أن أي دولة ينبغي أن تكون مواردها المالية موازية أو مكافئة لنفقاتها، وأن تحدد موازناتها بناءً على تقديرات واقعية ومدروسة.

وأضاف كوجر في تصريح لـ"طريق الشعب"، أن “المشكلة في العراق تكمن في أن الحكومات تُشكَّل على أساس المحاصصة والانتخابات، لا على أساس الكفاءة والخبرة، ما أدى إلى انفجار في الإنفاق التشغيلي”، مبيناً أن “80 في المائة من موارد البلاد تذهب إلى تغطية النفقات التشغيلية، حتى باتت الحكومة غير قادرة على تلبية نفقاتها بالاعتماد على الموارد المتاحة”.

وتابع أن هناك "مشكلات عميقة تتعلق بالفساد، والترهّل الإداري، وهيمنة بعض الجماعات المسلحة والمكاتب الاقتصادية التابعة لأحزاب نافذة على مصادر الإيرادات"، مؤكداً أن “العديد من موارد الدولة لا تخضع لسيطرة الحكومة، ولا تُجبى بشكل فاعل”.

ولفت كوجر إلى أن الحكومة في عام 2024 "أنفقت أكثر من 160 تريليون دينار، بينما لم تتجاوز مواردها 140 تريليونا، ما أدى إلى عجز لا يقل عن 20 تريليون دينار"، مشيراً الى ان هذا "يعكس غياب التخطيط الاستراتيجي، وتشتت السياسات النقدية والمالية”.

وبيّن أن اللجنة المالية "حذّرت مراراً من مخاطر الاستمرار بهذه السياسات، لكن “لا أحد يريد أن يسمع الحقيقة”.

وأضاف ان “كل مسؤول يعتبر نفسه عبقرياً، ولا توجد جهة تُنصت للخبراء أو تعتمد على مراكز دراسات، ولهذا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن”.

واستحضر كوجر في أثناء الحديث، حالة سابقة حصلت خلال أزمة داعش، قائلاً: “في عامي 2015 و2016 سحب البنك المركزي نحو 40 مليار دولار من احتياطيه، ما أدى إلى انخفاضه من 83 مليار دولار إلى ما دون الأربعين”، مضيفاً أن “فقدان أكثر من 11 تريليون دينار من الاحتياطي في الوقت الحالي يذكرنا بتلك المرحلة الحرجة”.

وفي ختام حديثه، شدد كوجر على أن “العراق ليس دولة مؤثرة اقتصادياً على المستوى العالمي، ولا يُنظر إلى الدينار العراقي كعملة دولية، لأننا دولة مستهلكة وغير منتجة”.

وأكد أن “إصلاح الأوضاع الحالية يتطلب حكومة قوية ورئيسا يفرض رؤية الحكومة، أما في ظل ضعف الإرادة السياسية فلن يكون هناك تغيير حقيقي".

سياسات مالية متضخمة

وأكد نائب محافظ البنك المركزي السابق، إحسان الياسري إن تراجع احتياطي البنك المركزي من العملة الأجنبية يرتبط بشكل رئيس بحجم ما تبيعه وزارة المالية من الدولار إلى البنك المركزي، مشيرًا إلى أن هذا الانخفاض لا يُعد بالضرورة مؤشرًا على تدهور الوضع المالي للدولة.

وأوضح الياسري في حديث خصّ به "طريق الشعب"، أنه وفق المعطيات المتداولة، فإن "الاحتياطي فقد ما يعادل 11 تريليون دينار عراقي، أي نحو 8 مليارات دولار، بسعر الصرف الرسمي، وهو ما يُعد تطورًا طبيعيًا في حال تراجعت الإيرادات النفطية المُخطط لها في الموازنة العامة".

وأضاف ان “هذا التراجع دفع وزارة المالية إلى اللجوء للاقتراض الداخلي، ما أسفر عن ارتفاع الدين الداخلي بين عامي 2024 و2025 بنحو 10 تريليونات دينار، وهو ما يعكس تمويل البنك المركزي لهذا العجز من خلال السوق الثانوي دون أن يتسلم مقابله دولارا من وزارة المالية”.

وأشار إلى أن هذا "التوازن بين ارتفاع الدين الداخلي وانخفاض الاحتياطي النقدي يوضح حجم التمويل المحلي الذي لجأت إليه المالية العامة. كما أن التراجع الطفيف في الدين الداخلي بين شهري كانون الثاني وشباط 2025 يعزى إلى إدارة الالتزامات وسداد جزئي لبعض الديون".

وشدد الياسري على أن وظيفة احتياطي البنك المركزي تتمثل في دعم التجارة الخارجية واستقرار الأسعار، مؤكداً أن تغيّر مستوى الاحتياطي لا يعكس بالضرورة تحسناً أو تراجعاً في الوضع المالي، بل يُقاس بمدى فاعلية السياسة النقدية في تلبية احتياجات الاقتصاد الوطني والقطاع الحقيقي.

 

ونوه الى ان "المعايير التي تبنى عليها تصورات قوة او ضعف الاحتياطات، تتعلق بعلاقة احتياطات البلد من العملة الأجنبية مقابل النقد المصدّر الى التداول".

وبحسب الياسري أن "احتياطات البنك المركزي الحالية تغطي ما يعادل 120 في المائة من النقد المصدر للتداول، في حين أن المعيار المقبول هو أن تغطي 60 في المائة، كما أن هذه الاحتياطيات قادرة على تمويل التجارة الخارجية لأكثر من 20 شهراً، حتى في حال توقف تصدير النفط وتوقفت المالية العامة عن بيع الدولار، وهو سيناريو غير وارد".

وبشأن قدرة البنك المركزي على تعويض الانخفاض في الاحتياطي، قال الياسري إن "الأمر يعتمد أساساً على حجم ما تبيعه وزارة المالية من العملة الأجنبية"، مردفا ان "البنك المركزي يستطيع في بعض الأحيان، التدخل بتنظيم نافذة بيع العملة، وترشيد عمليات البيع، وضبطها لتغطية الحاجات الأساسية فقط، وحصر مبيعات البنك المركزي بالأمور المهمة، دون فرض قيود على الجمهور لغرض الاستيراد وغيرها فهو امر ممنوع قانوناً، طالما أن الدينار المتداول مصدره سليم".

ولفت إلى أن "الرقابة المصرفية تتركز على مدى سلامة مصدر الدينار الذي يُقدمه المواطنون عبر المصارف، والتي تقوم بدورها بشراء الدولار نيابة عنهم من البنك المركزي".

وفي ما يخص إدارة الدين الداخلي، رأى الياسري أن "السياسات المالية ما تزال خاضعة لضغوط سياسية وانتخابية، تؤدي إلى تضخم في الإنفاق الحكومي عبر إطلاق مشاريع أو التوسع في التعيينات، ما يشكّل عبئاً على المالية العامة".

واعتبر أن الحل المستدام يتمثل في "تنشيط القطاع الحقيقي وتوفير فرص عمل في القطاع الخاص، إلى جانب تشريع قانون ضمان اجتماعي متكامل للعمال، بما يعادل نظم التقاعد للعاملين في الدولة، ما يُخفف الضغط عن القطاع الحكومي".

واعتبر الياسري أن "أبرز التحديات التي تواجه السياسة النقدية في العراق حالياً تتمثل في قرار خفض سعر الصرف مطلع عام 2023، والذي كبّد المالية العامة خسائر تُقدّر بنحو 10 تريليونات دينار سنوياً".

وبيّن أن هذا التخفيض "لم يحقق الأثر المرجو، إذ لم ينخفض سعر الصرف الموازي إلى مستوى السعر الرسمي البالغ 1320 دينارًا للدولار، بل بقي قريباً من سعره السابق عند حدود 1470 ديناراً".

وخلص الى أن "الاقتصاد الحقيقي فقد قدرته التنافسية التي بدأ باستعادتها بعد رفع سعر الصرف نهاية عام 2020، وهو ما كان قد ساهم حينها في تقليص الاستيراد وإنعاش الإنتاج المحلي، غير أن إعادة خفض السعر بعد عامين أجهض تلك المكاسب، وأدى إلى تراجع تنافسية الاقتصاد مجددًا، بالإضافة إلى خسارة المالية العامة للمبالغ التي كانت قد كسبتها من ارتفاع السعر سابقاً".

تحذير من عدم ضبط الانفاق

من جهته، قال الخبير الاقتصادي د. عبد الرحمن المشهداني إن مهمة البنك المركزي الأساسية تتمثل في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، ولا سيما استقرار سعر الصرف، موضحاً أن العراق يعتمد سعر صرف ثابت يقدر بـ1300 دينار للدولار.

وأضاف أن البنك المركزي يُجبر على ضخ الدولارات المتوفرة لديه – والتي تُعدّ من أصوله – للدفاع عن هذا السعر، مبينا أن “ارتفاع احتياطي العملة الأجنبية لا يُعدّ مؤشراً على قوة الاقتصاد، كما أن انخفاضه لا يعني بالضرورة ضعفه”.

وأشار المشهداني في حديث مع "طريق الشعب"، إلى أن إيرادات البنك المركزي تأتي من استثماراته في سندات الخزانة الأمريكية، ومن الفوائد على القروض التي يمنحها، إضافة إلى الغرامات التي يفرضها على المصارف وشركات الصرافة المخالفة.

 ولفت إلى أن “الاحتياطي يجب أن يغطي استيرادات البلد لمدة ثلاثة أشهر على الأقل، وحالياً يغطي نحو سنة وأربعة أشهر، وهو مؤشر جيد”.

وتابع قائلاً: “علينا البحث عن أسباب انخفاض الاحتياطي”، موضحاً أن “البنك المركزي خفّض عرض النقد بنحو 5 تريليونات دينار عبر سحب العملة المصدرَة من السوق وتعقيمها في خزائنه، في حين استخدم 6 تريليونات أخرى للدفاع عن سعر الصرف”.

وبيّن أن تعويض هذه المبالغ يعتمد على ارتفاع إيرادات النفط، قائلاً: “إذا تجاوزت إيرادات النفط 7.5 أو 8 مليارات دولار شهرياً، فإن الفائض سيُستخدم لتعزيز احتياطي البنك المركزي”.

وفي ما يخص ارتفاع الدين العام، أوضح المشهداني أن "السبب الرئيس هو التوسع في الإنفاق التشغيلي، خصوصاً على الرواتب والأجور والحماية الاجتماعية والمتقاعدين. في عام 2019 كانت هذه النفقات نحو 41 تريليون دينار، أما الآن فتصل إلى نحو 60 تريليون”.

وأضاف أن انخفاض أسعار النفط يدفع الحكومة إلى الاقتراض، سواء بشكل مباشر أو عبر طرح سندات وأذونات خزينة.

وتابع ان “هناك أيضاً نفقات الطاقة، والأدوية، والبطاقة التموينية، والتي تُقدَّر بنحو 10 تريليونات دينار، وهي نفقات لا يمكن تأجيلها، إلى جانب مستحقات الشركات الأجنبية العاملة في قطاع النفط، التي تُسدّد بانتظام”.

كما أشار إلى أن فوائد وأقساط الدين الخارجي تبلغ نحو 2 تريليون دينار سنوياً، فيما تصل فوائد وأقساط الدين الداخلي إلى نحو 12 تريليون دينار.

وواصل القول أن الدين الداخلي “أقل خطورة لأنه يمكن إعادة جدولته أو تأجيله أو إلغاء فوائده، على عكس الدين الخارجي الذي يجب تسديده في مواعيده المحددة”.

ونبّه المشهداني الى أن معالجة هذه التحديات تتطلب “تخطيطاً سليماً وتنسيقاً فاعلاً بين السياسات المالية والنقدية والتجارية”، مضيفاً انه “لا يجوز أن تكون السياسة المالية توسعية في ظل موارد محدودة، ثم نلجأ لاحقاً إلى الاقتراض الداخلي أو الخارجي”.

الايرادات غير النفطية

ودعا إلى تعزيز الإيرادات غير النفطية من خلال تحسين أداء مؤسسات الدولة، لافتاً إلى أن “الفساد هو السبب الرئيس لتباطؤ النمو، كما أشار صندوق النقد الدولي”.

وتابع “نحن نموّل التجارة سنوياً بنحو 65 مليار دولار، لكن الكمارك لا تحقق سوى إيرادات لا تتجاوز تريليون دينار، رغم أنه من المفترض أن تصل إلى أكثر من 10 تريليونات دينار، وهذا الفارق ناتج عن الفساد، وتحديداً بسبب وجود 22 منفذاً غير رسمي تدخل من خلالها البضائع، أو يتم تسجيلها بأقل من قيمتها أو تمريرها عبر الرشوة”.

وأكد أن معالجة ملف الكمارك والضرائب والعقارات (الطابو) من شأنه تحقيق إيرادات ضخمة للدولة، محذّراً من أن “بقاء الحال على ما هو عليه، من دون سياسة اقتصادية واضحة وسليمة، ومن دون إدارة رشيدة للموارد، سيقود البلد إلى وضع لا تُحمد عقباه، وسيدفع المواطن وحده ضريبته”.

واختتم بالقول: “إذا لم نضبط النفقات، فسنضطر إلى المزيد من الاقتراض داخلياً وخارجياً، علماً أن الدين الخارجي حالياً لا يتجاوز 9 مليارات دولار، وهو رقم بسيط نسبياً، لكن الخطر يكمن في تصاعده وتضاعفه مستقبلاً”.

عرض مقالات: