برغم الحديث المتكرر عن “المعالجات الجذرية” و”الخطط الحكومية الطموحة”، لا يزال مشهد المشاريع المتلكئة في العراق العنوان الأبرز في البلاد؛ فالأرقام والوقائع على الأرض تكشف عن استمرار الفشل الذي رافق كل الحكومات المتعاقبة، في استكمال آلاف المشاريع التي تمسّ حياة المواطنين اليومية، من بنى تحتية ومدارس ومستشفيات، إلى شبكات الصرف الصحي وغيرها.
وعاد هذا الملف المعقد إلى الواجهة مجددًا، في ظل تساؤلات متزايدة حول فاعلية الإجراءات الحكومية في معالجته، فعلى الرغم من تأكيد الجهات الرسمية اتخاذ خطوات تنفيذية لتجاوز هذه الأزمة المزمنة، يرى مختصون ان تلك الخطط تصطدم بتحديات بنيوية، في مقدمتها الاقتصاد الريعي المعتمد على أسعار النفط المتذبذبة، وسوء الإدارة، وتضارب الصلاحيات بين المؤسسات، ناهيك عن شبهات الفساد التي تطوق الكثير منها.
التخطيط: خطة لإنجازها وعدم تكرارها
وأعلنت وزارة التخطيط، اخيراً، عن تشكيل لجنتين حكوميتين لمعالجة المشاريع المتلكئة، مؤكدة استئناف العمل في عدد كبير من المستشفيات، ومعالجة مئات العقود المتوقفة في الوزارات والمحافظات.
وقال المتحدث باسم الوزارة عبد الزهرة الهنداوي، أن ملف المشاريع المتلكئة يُشكل ضغطاً كبيراً على الدولة، نظراً لما أنفق عليه من أموال، ولما سبّبه من تفويت للفرص التنموية والاقتصادية والخدمية، نتيجة لتأخر تنفيذ هذه المشاريع.
وأضاف الهنداوي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن هناك حاجة ملحّة لوضع معالجات منطقية وجذرية لهذا الملف، بهدف معالجة المشكلات القائمة، وتفادي تكرارها في المستقبل، وضمان عدم توقف المشاريع لأي سبب كان.
وتابع أن السبب الرئيس لتوقف أغلب المشاريع يعود إلى "القرار الحكومي رقم 347 لسنة 2015، الذي صدر في خضم الأزمة الاقتصادية والأمنية التي شهدها العراق آنذاك"، مشيراً إلى أن “الحكومة حينها لم تكن قادرة على توفير التخصيصات المالية الكافية لمواصلة العمل في المشاريع، خصوصاً تلك التي كانت نسب إنجازها متدنية، ما أدى إلى إيقافها”.
وواصل القول ان توقف العمل فيها تسبب في اندثار العديد منها، ما أدى إلى ارتفاع كلفتها بشكل كبير.
وزاد أن الحكومة الحالية جعلت من ملف المشاريع المتلكئة أولوية، وشكّلت لهذا الغرض لجنتين برئاسة نائب رئيس الوزراء وزير التخطيط د. محمد تميم، مبينا أن "اللجنة الأولى هي لجنة الأمر الديواني (45)، التي كانت قد شُكّلت في عهد الحكومة السابقة، وتم تفعيلها من قبل الحكومة الحالية، وهي معنية بمعالجة ملف المستشفيات المتلكئة في عموم البلاد".
واشار الى انه “كان لدينا نحو 72 مستشفى متلكئاً بسعات سريرية تتراوح بين 50 و600 سرير، موزعة على عدد من المحافظات، بعضها ضمن البرنامج الاستثماري لوزارة الصحة، وبعضها ضمن برامج تنمية الأقاليم، فيما تنتمي مجموعة ثالثة إلى وزارة التعليم العالي بوصفها مستشفيات جامعية”.
وأكد أن اللجنة "نجحت في معالجة مشكلات جميع هذه المستشفيات، حيث استُؤنف العمل في أغلبها، وتم إنجاز أكثر من 15 منها وأُدخلت إلى الخدمة، فيما تتواصل الأعمال في الأخرى، بانتظار استئناف التنفيذ في القريب العاجل".
أما اللجنة الثانية، فقال الهنداوي أنها "معنية ببقية المشاريع المتلكئة، كالمشاريع الخدمية، ومشاريع الماء والصرف الصحي والمدارس والكهرباء والبنى التحتية"، مضيفا أن هذه اللجنة، التي تضم ممثلين عن وزارتي المالية والتخطيط، وديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة، بدأت عملها مطلع عام 2023، وتمكنت من وضع معالجات لعدد كبير من المشاريع المتوقفة.
وحول المشاريع التي لم تُعالج بعد، أوضح الهنداوي أن "بعضها يرتبط بملفات قضائية، تشمل شبهات فساد أو إشكالات قانونية أخرى، وبالتالي فإن حسمها مرهون بقرارات القضاء"، موضحا أن اللجان المعنية "تقوم بدراسة المشاريع مكتبيًا وميدانيًا، وتطلع على جميع تفاصيلها قبل اتخاذ قرارات المعالجة المناسبة، والتي قد تشمل سحب العمل من الشركات، أو تمديد المدة، أو زيادة الكلفة، وذلك بحسب طبيعة المشكلات التي تسببت بتوقف المشروع".
اين نتائج المعالجات؟
من جانبه، أكد عضو اللجنة القانونية البرلمانية النائب عارف الحمامي، أن المشاريع المتلكئة ما تزال تنتشر في مختلف مناطق العراق، مشيراً إلى أن قطاع التعليم يُعد من أبرز الأمثلة على ذلك، إذ “ما تزال مئات المدارس في محافظة ذي قار متوقفة ولم تُنجز حتى الآن”.
وقال الحمامي في حديث لـ"طريق الشعب"، ان “هذا مثال واحد من بين عشرات، بل ربما مئات المشاريع المتوقفة التي لم تُستكمل حتى اليوم”، مضيفا أن "المشكلة لا تقتصر على قطاع التعليم، بل تشمل محطات ومشاريع خدمية وصحية، ومنها مستشفى الحوراء في قضاء الشطرة، الذي مضى على بدء العمل فيه أكثر من 15 عاماً، ورغم إنجاز نحو 95 في المائة من هيكله، إلا أنه ما يزال متلكئاً".
وأشار إلى أن "مشاريع الماء والمجاري تواجه المصير نفسه، رغم أنها ذات أهمية بالغة، خاصة في ظل الظروف الصحية الصعبة التي تمر بها محافظة ذي قار، حيث تسجل نسباً مرتفعة في حالات الإصابة بالسرطان والفشل الكلوي، ناهيك عن باقي المحافظات".
وشدد الحمامي على “ضرورة وضع خطط حقيقية ومدروسة لتحسين البيئة بالتعاون مع وزارة الصحة، لمعالجة التدهور الحاصل في الواقع الصحي والخدمي”.
فيما عزا في السياق ذاته أسباب تلكؤ المشاريع إلى "مشاكل في التمويل، لكن بعد توقفها انذاك، كان يفترض أن يُعالج هذا الملف وتوفر الظروف المناسبة لإنجاز المشاريع، لاسيما بعد تشكيل حكومة جديدة واعتماد موازنة مالية كبيرة”.
وانتقد الحمامي الأداء الحكومي، قائلاً انه “رغم الوعود بمعالجة المشاريع المتلكئة، لم نلمس أي تغيير على أرض الواقع، وهو ما يكشف عن وجود خلل إداري واضح”، محملاً الحكومة “المسؤولية الأساسية عن استمرار هذا التلكؤ، نتيجة غياب الضوابط والإجراءات الفاعلة التي من شأنها أن تضع حداً لهذه الظاهرة”
استهلاك إعلامي
الى ذلك، قال المراقب للشأن الاقتصادي خالد حسن أن واقع المشاريع في العراق لا تحدده القوانين أو القرارات أو حتى الرغبات الحكومية، بل يتوقف أساساً على أسعار النفط، قائلاً إن “الاقتصاد الريعي الذي يعتمد عليه العراق يجعل المشاريع دائماً عرضة للانتكاسات والتوقف، تبعاً لتقلبات الأسعار”.
وأضاف حسن في حديث مع "طريق الشعب"، انه "في ظل التزامات الدولة المالية الكبيرة، وعلى رأسها رواتب الموظفين والإنفاق التشغيلي، تزداد الضغوط عاماً بعد عام على الموازنة العامة، ما ينعكس سلباً على استمرار المشاريع التنموية والخدمية”.
وأوضح أن “العديد من المشاريع تلكأت أو توقفت بسبب انخفاض أسعار النفط في فترات سابقة، أو بفعل الحرب ضد تنظيم داعش”، مبيناً أن “الحكومة أعلنت عن وضع خطط لمعالجة هذا الملف منذ اشهر، لكن لم تظهر نتائج ملموسة على أرض الواقع حتى الآن”.
وأشار حسن إلى أن “عدداً من المشاريع التي يراد إعادة العمل بها، مرت عليها سنوات طويلة، ما تسبب بحالة من الاندثار، قد تصل نسبتها إلى 70 في المائة، حتى وإن كانت نسب الإنجاز السابقة تصل إلى 90 في المائة، وبالتالي فإن معالجتها تتطلب إعادة تأهيل واسعة ومكلفة”.
وفي ما يتعلق بتمويل المشاريع المتوقفة، قال ان "العراق اليوم لا يمر بمرحلة وفرة مالية تمكنه من تمويل مشاريع كبرى أو إعادة تأهيل المتلكئة منها، ولذلك تبقى كل الأحاديث عن المعالجات محل شك، خاصة وأننا لا نرى مؤشرات حقيقية على الأرض”.
ونوه بانه "لا توجد مشاريع متلكئة من السابق قد تم استئناف العمل فيها بشكل فعلي، ما يجعل ما يُطرح اليوم أقرب للاستهلاك الإعلامي، أو محاولة لإدامة زخم الأداء الحكومي مع اقتراب موعد الانتخابات واحتدام التنافس السياسي".
وخلص الى القول: انه "مع توقف البرلمان وغياب دوره الرقابي في هذه المرحلة، يصبح التعويل عليه ضعيفاً جداً، وربما الرهان الوحيد المتبقي هو مدى مصداقية الحكومة في تنفيذ وعودها. وهذه المصداقية بدورها تعتمد بشكل أساس على ارتفاع أسعار النفط، وهو أمر غير متحقق حالياً".