اخر الاخبار

لا تزال المنافذ الحدودية تشكل ثغرة كبيرة في جسد الاقتصاد الوطني، تنفذ منها المليارات الى جيوب الفاسدين شهريا. ويجمع خبراء ومراقبون على أن ما يُستحصل اليوم من تلك المنافذ لا يمثل سوى جزءٍ يسير من الإيرادات الفعلية، في ظل استمرار التلاعب بالتعرفة الجمركية، وعدم توحيد الإجراءات، وإمساك قوى متنفذة بزمام السيطرة على بعض المنافذ، بعيدًا عن رقابة الدولة.

تفاوت الإجراءات تهديد كبير

رئيس هيئة المنافذ الحدودية اللواء عمر الوائلي، يؤكد أن التفاوت المستمر في الإجراءات بين المنافذ التابعة للحكومة الاتحادية وتلك العاملة ضمن إقليم كردستان، بات يُشكل تهديدًا مباشرًا لحركة التجارة والعدالة الجمركية، محذراً من تداعيات اقتصادية خطيرة.

وقال الوائلي في تصريح تابعته "طريق الشعب"، إن "المادة 110 من الدستور منحت السلطات الاتحادية صلاحيات حصرية في رسم السياسة الاقتصادية والتجارية، بما يشمل إدارة المنافذ والجمارك، ومن غير المقبول أن تتخذ منافذ الإقليم مسارات موازية دون رقابة اتحادية فاعلة، في الوقت الذي تُشدد فيه الإجراءات على المنافذ الأخرى".

وأضاف أن "هذا التفاوت يُفضي إلى خلق بيئة تجارية غير متوازنة، تُجبر الكثير من التجار على التوجه إلى الإقليم للاستفادة من التسهيلات هناك، ما يضعف الإيرادات الاتحادية ويُربك السوق المحلية".

وفي بيان أخير لهيأة المنافذ الحدودية، أعلنت عن استكمال ربط السيطرات التابعة لإقليم كردستان مع مقر الهيأة، "وذلك لمتابعة سير الإجراءات وضمان تحقيق العدالة في استيفاء الرسوم، استناداً إلى قرار مجلس الوزراء رقم 270 لسنة 2025".

ضياع أكثر من نصف الإيرادات

من جهته، حذّر الباحث في الشأن الاقتصادي عبد الرحمن الشيخلي من أن مشكلة المنافذ الحدودية في العراق، باتت تشكل أحد أبرز مصادر استنزاف الموارد المالية للدولة، مشيرًا إلى أن جذور هذه الأزمة تعود إلى ما بعد عام 2003، عندما بدأ التراخي في إدارة الحدود وتحصيل الرسوم الجمركية بشكل أصولي.

وقال الشيخلي لـ"طريق الشعب"، إنّ "الفساد المالي والإداري في المنافذ الرسمية يتسبب بهدر أكثر من نصف الإيرادات المستحقة للدولة"، موضحًا أن "المكلفين بدفع الرسوم كثيرًا ما يتمكنون من إدخال البضائع من دون الالتزام الكامل بالتسعيرات والتعرفة المعتمدة، بفعل التلاعب أو المحاباة أو الرشاوى".

وأضاف أنه "برغم إدخال نظام الأتمتة في بعض المنافذ مؤخرًا، إلا أن ضعف السيطرة العامة وغياب الرقابة الحقيقية يحول دون الاستفادة القصوى من هذه الأنظمة"، متوقعًا أن "تتضاعف الإيرادات الجمركية أكثر من ثلاث او 5 مرات على الاقل إذا ما جرى ضبط الفساد وتفعيل الأنظمة الإلكترونية بشكل شامل".

22 منفذا غير شرعي؟

وفي ما يتعلق بالمنافذ غير الرسمية، أوضح الشيخلي أن هناك سبعة منافذ رسمية معلنة في إقليم كردستان، لكن عدد المنافذ الفعلية قد يصل إلى 22 منفذاً غير شرعي، تُستخدم لإدخال البضائع من دون رقابة حكومية اتحادية، ما يضعف هيبة الدولة ويشجع التهريب والتلاعب بالرسوم”.

وقال إن "العديد من التجار يفضّلون المنافذ غير الشرعية، لأنها تستحصل منهم رسوماً أقل من المعتاد، وتُتيح لهم تمرير البضائع بسهولة أكبر، ما يُضعف المنافسة العادلة، ويضرب الإيرادات الاتحادية"، مؤشرا وجود "هيمنة من قبل قوى سياسية نافذة وأذرع مسلحة على بعض المنافذ، ما يجعل من الصعب تنفيذ إصلاح إداري شامل دون توافق سياسي واسع"، مضيفا أن "الواقع يفرض أن تكون هناك إرادة سياسية حقيقية من داخل الإطار التنسيقي والحكومة لضبط هذه المنافذ وإعادة سلطة الدولة عليها".

وفي تقييمه للإيرادات المحققة حتى الآن، أوضح الشيخلي أن "حجم الإيرادات الجمركية في عام 2025 بلغت حتى الآن نحو 274 مليار دينار فقط، وهو رقم متواضع جدًا مقارنة بالإمكانات الحقيقية"، لافتًا إلى أن "الإيرادات السنوية يمكن في ظل إدارة فاعلة أن ترتفع إلى 10 تريليونات واكثر، إذا ما تم القضاء على الفساد وضبط جميع المنافذ، لا سيما غير الرسمية منها".

واختتم الشيخلي حديثه بالإشارة إلى حجم التلاعب في التصنيفات الجمركية، قائلاً ان "بعض البضائع المحظورة أو التي تفرض عليها رسوم مرتفعة تصل الى 300 في المائة، مثل السجائر والخمور تُسجل تحت بنود غذائية مثل معجون الطماطم وغيرها لتقليل الرسوم، وهذا نموذج صريح على الفساد المستشري في النظام الجمركي الحالي".

ضرورة لا تحتمل التأجيل

إلى ذلك، أكد الخبير الجمركي مصطفى الفرج أن الزيادة الأخيرة في الإيرادات الجمركية تعود بشكل رئيس إلى تطبيق نظام الأتمتة (الاكسيودا)، الذي أسهم في رفع الإيرادات السنوية للجمارك إلى نحو 2.5 تريليون دينار خلال العام الماضي، مشيرًا إلى أن هذا النظام لا يزال في مرحلته الثانية، لكنه أثبت جدواه.

وشدّد الفرج في حديث مع "طريق الشعب"، على أن "نجاح النظام مرهون بتعميمه على جميع المنافذ الحدودية في العراق، لا سيما أن تطبيقه في الوقت الراهن يشمل كل المنافذ، بينما تمتنع المنافذ في المناطق الشمالية عن الالتزام به، الأمر الذي تسبب بتوجه التجار من الوسط والجنوب نحو تلك المنافذ، بسبب عدم اعتمادها نظام الأتمتة".

وأوضح أن هناك مشكلة أساسية أخرى "تتمثل في غياب التوحيد في التعرفة الجمركية، إذ تعتمد منافذ الإقليم تسعيرات مختلفة عن تلك المعتمدة في باقي محافظات العراق، ما يعزز التفاوت والتلاعب، ويضعف العدالة الجمركية ويضر بالإيرادات الرسمية".

وحذّر الفرج من ان استمرار وجود منافذ غير رسمية تسهم في عمليات التهريب، ينعكس سلباً على الاقتصاد الوطني والرقابة النوعية للبضائع، قائلًا ان "هذه المنافذ تمثل تهديداً مباشرًا لأي إمكانية إصلاح، ويجب إما ضمها للنظام الجمركي الموحد أو إغلاقها بالكامل".

وبيّن أن "استكمال مراحل نظام الأتمتة، والربط الإلكتروني مع البنك المركزي، وتفعيل التصريح الجمركي الموحد في جميع المنافذ، بالإضافة إلى القضاء على الفساد والبيروقراطية، يمكن أن يرفع الإيرادات الجمركية المتحققة إلى ما بين 2 إلى 10 تريليونات دينار سنوياً".

وخلص الى القول ان "العراق بلد استيرادي بامتياز، وموقعه استراتيجي، ولا يُعقل أن تستمر المنافذ الحدودية خارج سيطرة الدولة، أو أن تُهدر فرص تحصيل الموارد غير النفطية بهذا الشكل. الإصلاح الجمركي ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل".

خلل عميق في النظام الكمركي

من جانبه، كشف الخبير الاقتصادي منار العبيدي عن وجود فجوة مالية خطيرة في النظام الكمركي العراقي، أهدرت خلالها الدولة أكثر من 20 تريليون دينار خلال الفترة من عام 2019 إلى عام 2024، في ظل غياب الإصلاحات الفعلية وهيمنة جهات متنفذة على منافذ الاستيراد.

وبحسب تدوينة نشرها العبيدي، فإن "إجمالي التحويلات المالية الرسمية المخصصة للاستيراد، بحسب بيانات البنك المركزي العراقي، بلغت نحو 311 مليار دولار، أي ما يعادل 415 تريليون دينار عراقي، وهي أموال خرجت من البلاد لاستيراد السلع والخدمات"، إلا أن ما تم تحصيله من عوائد جمركية خلال هذه السنوات، وفق بيانات وزارة المالية، لم يتجاوز 8.5 تريليون دينار فقط، أي بنسبة لا تتعدى 2% من إجمالي المبالغ المحوّلة.

وعدّ العبيدي هذا الفرق المالي الكبير "مؤشراً على وجود خلل عميق في النظام الكمركي"، موضحاً أن "المبلغ الذي كان يُفترض أن يُحصَّل، استناداً إلى تعرفة كمركية متوسطة تبلغ 7%، لا يقل عن 29 تريليون دينار"، ما يعني وجود فاقد فعلي يتجاوز 21 تريليون دينار، وهو تقدير محافظ وقد يكون الرقم الحقيقي أكبر من ذلك بكثير.

وأشار العبيدي إلى عدة أسباب تقف وراء هذه الفجوة، من بينها تحويل مسارات الاستيراد إلى منافذ إقليم كردستان التي لا تعيد الإيرادات الجمركية إلى الحكومة الاتحادية، واستيرادات وهمية تتم عبر تحويلات مالية لا تقابلها سلع حقيقية. بالإضافة الى تزوير الفواتير وتقليل قيم الشحنات للتحايل على دفع الرسوم، والاستيراد غير الرسمي عبر منافذ خارج سيطرة الدولة الاتحادية.

ووصف العبيدي الواقع الحالي بأنه "فشل صريح للنظام الكمركي"، مؤكداً أن الوقت لم يعد مناسباً للحلول الجزئية أو الترقيعية. واقترح بدلاً من ذلك إلغاء الكمارك بصيغتها الحالية واستبدالها بـ"ضريبة مضافة مباشرة تُفرض على كل عملية تحويل مالي تُجرى لغرض الاستيراد"، كبديل أكثر شفافية وعدالة.

وبحسب طرحه، فإن النظام المقترح سيوفر تحصيلاً فعلياً للإيرادات دون تهرب وحرمان الجهات الفاسدة من استغلال المنافذ، فضلا عن تعزيز موارد الدولة وسد العجز في الموازنات العامة.

عرض مقالات: