اخر الاخبار

كما جرت العادة، تذيّل العراق مرة اخرى تصنيفًا دولياً آخر، وهذه المرة في مؤشر “جودة النخبة” العالمي، بهدف تقييم مدى مساهمة النخب الحاكمة في خلق قيمة مستدامة، تخدم المجتمع عوضا من الانخراط في أنشطة تهدف إلى استخراج القيمة لفائدة مصالح ضيقة وخاصة.

ويشير معنيون الى أن البلاد تقف أمام فجوة متسعة بين الدولة ومجتمعها، تُعمّقها منظومة تغلب الولاء على الكفاءة، والمصالح الخاصة على المصلحة العامة.

تصنيف مُخجل

وحلّ العراق في مرتبة متأخرة ضمن مؤشر "جودة النخبة" العالمي، الذي يقيس مدى إسهام النخب الحاكمة في تحقيق منفعة عامة للمجتمع، مقابل السعي لتحقيق مكاسب شخصية.

وبحسب التصنيف، الذي يصدر ضمن إطار الاقتصاد السياسي، فقد جاء العراق في المرتبة 146 من أصل 151 دولة شملها التقييم، متقدماً فقط على اليمن وسوريا والسودان وهايتي وأفغانستان.

ويعتمد المؤشر على 4 أبعاد رئيسية: القوة الاقتصادية، السلطة السياسية، القيمة الاقتصادية، والقيمة السياسية، لتحديد ما إذا كانت نخب الدولة تحقق قيمة صافية للمجتمع أم تعمل لتحقيق مصالحها الخاصة.

نخبة من ورق

وللتعليق حول ذلك، قال السياسي والقاضي المتقاعد، وائل عبد اللطيف: إن هذا المؤشر الذي وضع العراق في المرتبة 146 من أصل 151 دولة في قائمة الدول، يعبّر بصدق عن الواقع المتردي للطبقة الحاكمة، بل ربما كان المؤشر متساهلا معهم، “لأن مكانهم الحقيقي هو المرتبة الأخيرة تماماً إن لم يكن خارج التصنيف".

وأضاف عبد اللطيف في حديث مع "طريق الشعب"، أن "الأزمة لا تقتصر على الفساد أو الفشل الإداري، بل تتعلق بانهيار شامل في منظومة القيم والكفاءة داخل المؤسسة السياسية في البلد".

وتابع قائلاً ان "القوى المسيطرة على الحكم في العراق ليس قادرًا على إنتاج نخب سياسية حقيقية، أنتج طبقة مترفة تحتقر المواطن وتستغل موارد الدولة لمصالحها الخاصة. الوزراء يتنقلون بين الوزارات بلا اختصاص، ويُعيّنون على أساس الولاء لا الكفاءة، في مشهد لا يمت للدولة الحديثة بأي صلة".

وأشار عبد اللطيف إلى أن الدولة "أصبحت “مجزأة”، حيث يشتغل كل طرف سياسي بمعزل عن الآخر، والوزارات والمحافظات تُدار كأنها إمبراطوريات خاصة"، مشيراً الى أنه "لا توجد حكومة موحدة، ولا مشروع وطني واضح. البرلمان عاجز، والوزارات تتحرك وفق مصالح الأحزاب التي تتقاسم النفوذ”.

وانتقد عبد اللطيف في السياق "استمرار الطبقة السياسية نفسها في الحكم رغم فشلها الواضح، محمّلاً المواطنين جزءًا من المسؤولية، كونهم يعيدون انتخاب الشخصيات ذاتها رغم التجربة المريرة".

وأكد أن المرجعية الدينية في النجف كانت واضحة في رسائلها السياسية، حيث دعت إلى "إحالة كبار الفاسدين إلى القضاء والاستفادة من الكفاءات الوطنية، لكن هذه الدعوات لم تجد آذانًا صاغية، بل جرى الالتفاف عليها".

واختتم حديثه بالقول: ان “العراق لا يعاني من نقص في العقول، بل من إقصائها. هناك كفاءات وطنية نزيهة، لكن لا يُسمح لها بالوصول. ما نحتاجه اليوم هو وعي شعبي يرفض انتخاب الفاسدين، ويُقصي اصحاب ولاءات الخارج، ومن باع الوطن، ومن لا يمتلك الحد الأدنى من الكفاءة والنزاهة”.

العراقيون يستحقون نخبة أفضل

من جهته، أكد المراقب للشأن السياسي داوود سلمان أن ما يُطلق عليه “النخبة الحاكمة” في العراق لا تمت بصلة لهذا المفهوم، لا من حيث الأداء ولا من حيث القيم والمعايير الأخلاقية.

وقال سلمان في حديث مع "طريق الشعب"، انه "حين نتحدث عن النخبة، فإننا نقصد شريحة تتمتع بكاريزما، ووعي، وثقافة، ونزاهة، وإخلاص للوطن والمجتمع، وتغلب المصلحة العامة على المصالح الشخصية. هذه هي المعايير التي تُميز النخبة الحقيقية، لا مجرد شخوص يتصدرون المشهد السياسي”.

وأضاف قائلاً انه “بكل وضوح، لا يوجد بين الطبقة السياسية الحاكمة اليوم من تنطبق عليه تلك المواصفات. ليس فيهم من هو نزيه أو أمين، ولا من يمثل بيئته بصدق، بل الأغلبية تدين بالولاء لجهات خارجية أو مصالح ضيّقة، ويحرصون على اقتسام الموارد والمناصب لا خدمة المواطن”.

وأشار إلى أن "وضع العراق في ذيل تصنيف الدول من حيث النخبة السياسية ومدى اسهاماتها بتقديم المنافع للناس مقابل مكاسبها الشخصية، كان دقيقاً وصادقاً، قياساً بالواقع".

ونوه الى ان "المجتمع العراقي فيه نخب فكرية وأكاديمية راقية تضاهي نظراءها في العالم، لكن لم تُمنح الفرصة للمشاركة في قيادة الدولة، لأنها ببساطة لا تنسجم مع منظومة الفساد والمحاصصة”.

وتابع قائلاً ان "الشواهد كثيرة، لشخصيات وطنية، حين أُتيحت لها الفرصة، رفضت أن تكون جزءاً من هذا الخراب، وتخلت عن مناصبها، وفضلت الغربة على البقاء في مشهد سياسي لا يؤمن بقيم الدولة والديمقراطية او بقوا في الداخل، ويعيشون حياة بسيطة جداً”.

وشدد على أن "التغيير مرهون بوعي الشعب، وآمل أن يدرك المواطن حجم مسؤوليته في الاختيار، فالتغيير يبدأ من صناديق الاقتراع، لا بانتظار معجزة. يجب أن يُقصى الفاسدون، وأن تُعطى الفرصة لنخب وطنية حقيقية تحمل مشروعًا للإصلاح”.

وخلص الى القول: ان “من المخجل أن نطلق على الفاسدين صفة سياسيين أو نخبة، فهم بعيدون كل البعد عن هذه الأوصاف. النخبة لا تشتري صوت المواطن بمدفأة وطعام، ولا تحتقر وعيه بالمهرجانات الفارغة. النخبة تُقدم مشروعاً، والمواطن هو من يحكم عليه. أما ما نراه اليوم، فهو تهريج سياسي، لا علاقة له بالنخبة أو بالقيادة”.

"زمرة متسلطة"

اما المحلل السياسي مناف الموسوي فقد قال إن الأزمة بين الطبقة السياسية والمواطن لم تعد بحاجة إلى تقارير دولية لتشخيصها، فالمشهد واضح: هناك أزمة ثقة حقيقية ومتجذرة.

وأضاف الموسوي في حديث مع "طريق الشعب"، أن أبرز مؤشرات هذه الأزمة "تمثلت في انتفاضة تشرين الشعبية، وكذلك في العزوف الواسع لأغلبية المواطنين عن الانتخابات النيابية السابقة، خاصة ما يُعرف بـ”الأغلبية الصامتة”"،

وأرجع أسباب هذه الأزمة إلى "سوء الإدارة، وعدم وفاء القوى السياسية بوعودها خلال الحملات الانتخابية، فضلًا عن سلوكها القائم على تهميش المواطن بعد الانتهاء من التصويت".

وأشار إلى أن القوى السياسية "تتعامل مع المواطن كأداة انتخابية مؤقتة، لا كجزء فاعل في العملية السياسية، وهو ما أدى إلى تصاعد حجم الاحتقان الاجتماعي من هذه الطبقة السياسية".

ونوه الى "اننا أمام مشهد طبقي مقلق، إذ نرى طبقة ثرية مفرطة في الامتيازات، مقابل طبقة مسحوقة تعاني من الفقر والعوز، فيما اختفت الطبقة الوسطى التي كانت تمثل العمود الفقري للمجتمع، وعلى رأسها فئة الموظفين”.

وتابع أن "ما نشهده من نتائج كارثية يعود إلى تغليب المصالح الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية، واستغلال موارد الدولة لخدمة المشاريع الحزبية والفئوية، وهو ما تلتقطه أيضاً التقارير الدولية كمؤشرات على فشل القوى الحاكمة في تحقيق منافع عامة للمجتمع".

وزاد بالقول: ان “انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة يعطي انطباعاً سلبياً على المستوى الدولي بشأن سلامة المسار الديمقراطي في العراق، ويعكس حجم الاستغلال الواضح لمؤسسات الدولة من قبل الكتل السياسية، وهو ما قد يُضعف او يثلم الاعتراف الدولي بشرعية هذه القوى”.

واتم حديثه متسائلاً: “بعد أكثر من 22 عامًا على تغيير النظام، هل من المنطقي أن نطلق على الطبقة السياسية الحالية وصف (النخبة الحاكمة)؟، فمفهوم النخبة يعني التميز والتفوق في الأداء، لا السيطرة والتسلط، لكن الأدق هو أن نقول إننا أمام زمرة حاكمة، لا نخبة. زمرة أبعد ما تكون عن روح المسؤولية، وأقرب إلى الاستحواذ على الدولة”.

عرض مقالات: