مع بدء التحضيرات للانتخابات النيابية بدورتها السادسة، المقرر إجراؤها نهاية العام الجاري، يتجدد الجدل حول دور المال السياسي وتأثيره في نزاهة المنافسة الانتخابية، إذ تتصاعد التساؤلات بشأن فاعلية الضوابط القانونية ومدى التزام الجهات المعنية بمراقبة مصادر التمويل الانتخابي، في وقت يبدي فيه عدد من المراقبين والمرشحين والناشطين قلقاً من غياب معايير الشفافية والعدالة.
والمفارقات الغريبة هنا، تتمثل بشكاوى قيادات نافذة في العملية السياسية، حكومية وحزبية، من ان الانتخابات المرتقبة تقوم على المال السياسي، وتفتقد الحزم إزاء محاولات التلاعب وشراء الأصوات.
وفي هذا الصدد، يرى مراقبون ان هذه المفارقة تكمن في أن القيادات السياسية المتذمرة الان هي عينها قد عملت من خلال كتلها في البرلمان على تكريسها، بدءا بقانون الانتخابات، مرورا بعدم الضغط على المؤسسات المعنية بمراقبة الأحزاب ومصادر تمويلها، ووصولا الى إجراءات مفوضية الانتخابات في هذا الخصوص.
مساءلة مفوضية الانتخابات!
عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي، ياسر السالم، يرى ان تناقضا صارخا يبرز في المشهد السياسي لا يمكن تجاهله. فالأطراف التي تمسك بزمام القرار داخل مجلس النواب، وتمتلك أدوات التشريع والرقابة، لم تبادر بأي خطوات جادة لكبح جماح المال السياسي أو ضبط إيقاعه ضمن معايير العدالة الانتخابية، لا في تشريع قانون الانتخابات، ولا من خلال مساءلة مفوضية الانتخابات، ورغم ذلك تتصاعد الشكاوى من قادة الكتل السياسية حول تغلغل المال السياسي في الحملات الانتخابية!
ويقول السالم في حديث لـ"طريق الشعب"، ان "استمرار هذه المفارقة يشكّل تهديداً مباشراً لنزاهة العملية الانتخابية، ويؤسس لحالة من اللاعدالة التي تمنح الأفضلية لمن يملك النفوذ المالي على حساب من يمتلك الرؤية والكفاءة والنزاهة".
مطلوب جرأة الملاحقة
ويحذر السالم من ان "المال السياسي لم يعد مجرد ظاهرة طارئة، بل تحول إلى بنية متغلغلة في مفاصل المنظومة السياسية، تُستخدم للتأثير على المرشحين والناخبين، وشراء الذمم، مستفيدة من ضعف الرقابة وانعدام الشفافية في تمويل الحملات".
ويتابع ان "التراخي في مواجهة هذه الظاهرة يعد من عوامل إنتاج المنظومة الفاشلة نفسها، ويمنع أي تغيير حقيقي، ويقود بالتالي إلى إحباط الناخب وتآكل ثقته في صندوق الاقتراع كأداة للتغيير السلمي"، لافتا الى ان "الأسوأ من ذلك، أن سيطرة المال السياسي على الحملات الانتخابية تؤدي إلى تسليع الصوت الانتخابي، وتُحول الناخب إلى متلقٍ للعطايا لا إلى مقرر، وفقا للمبدأ الديمقراطي".
قوانين صارمة
ويشير السالم الى ان "الحزب الشيوعي يؤكد أن العدالة الانتخابية لا تتحقق بالشعارات، بل بقوانين صارمة تكشف مصادر التمويل وتُجرّم شراء الأصوات، وبآليات رقابة مستقلة محايدة، وببيئة سياسية تعترف بالتداول السلمي"، مطالبا "القوى الوطنية، ومنظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، بالتصدي لهذه الظاهرة بجرأة، من خلال الضغط على الهيئات الرقابية والقضاء، وملاحقة المخالفين، وفضح الممارسات غير المشروعة".
مرشح بلميارين!
الباحث في الشأن السياسي، د. سيف السعدي، كشف لـ"طريق الشعب، عن "أنواع من المرشحين للانتخابات، ووصل سعر المرشح الذهبي الى أكثر من ملياري دينار والمرشح السوبر مليار دينار، وحقيقة ان هناك فرقا شاسعا في سقف الانفاق الانتخابي بين هذه الأحزاب وبين تلك التي لا تمتلك وزارات واقتصاديات تغذي مرشحيها ودعاياتها الانتخابية".
وقال ان "العزوف عن الانتخابات له أسبابه الكثيرة منها الفساد وتكرار نفس الوجوه وعدم الإيمان بالطبقة السياسية وعدم تقديم نموذج انتخابي يعيد ثقة الناخبين بالانتخابات"، مبينا أن "المسؤولية تتحملها عدة جهات في مقدمتها ما يتعلق بتطبيق قانوني الانتخابات والأحزاب، وأيضا المفوضية باعتبارها مسؤولة عن هذا الشيء".
أجنحة مسلحة!
وبين السعدي، ان "المادة 30 من قانون الانتخابات اشارت ضمنا الى عدم السماح للأحزاب التي تمتلك جناحا مسلحا بالاشتراك في الانتخابات. وهذا واحد من الأسباب في عدم تطبيق قانون الانتخابات".
ونوه بان "المادتين 30 و31 من القانون ذاته، أشارتا الى انه يحظر على الأحزاب ان تتلقى أموالا مشبوهة وعن طريق حوالات من الخارج، وبعكسه تحاسب وتحظر هذه الأحزاب، وأيضا لا تطبق فقرات هذا القانون".
واعتبر السعدي، ان "الدورة النيابية السادسة سوف تكون الأعلى من ناحية سقف الإنفاق الانتخابي، وهو امر سيؤثر على الأحزاب التي لا تمتلك وزارات واقتصاديات. والمال سيكون معيارا لصعود مرشحين الى البرلمان وليس معيارا للكفاءة والنزاهة والأهلّية لتمثيل هذا الشعب".
هيمنة على المقاعد
من جانبه، قال المختص في الشأن الانتخابي درير توفيق، ان "مجلس النواب يعكس رغبات وسياسات الاحزاب المتنفذة فيه، وبالتالي فان هذه الأحزاب هي من يضع البنود والمواد التشريعية ضمن قانون الانتخابات بما يخدم مصالحها ومشاريعها السياسية لا مصلحة البلد والمواطنين. إنما هدفها الأساس هو المحافظة على السلطة والهيمنة والمكاسب".
وأضاف توفيق في تصريح لـ"طريق الشعب"، ان الكتل المتنفذة في مجلس النواب لا رغبة لديها بان تكون هناك إدارة تنظيمية مؤثرة، كي لا تقطع وعودا وتلتزم بها أمام الناخبين، ومن ثم تحاسب أمامهم".
وأشار إلى ان "هذه القوى ترى ان طريقها الأفضل هو شراء أصوات الناخبين، وهؤلاء بطبيعة الحال لا يفكرون بمحاسبة من صوتوا لهم، لان أصواتهم جاءت بطريقة شراء الذمم".
شعارات لا برامج
من جهته، أكد الأكاديمي إياد العنبر، أن العملية الانتخابية في العراق لا تقوم على أسس ديمقراطية راسخة، بل ترتكز على منطق "الزبائنية السياسية"، حيث تُقدَّم الوعود والشعارات لا باعتبارها برامج عمل، بل كوسيلة لاسترضاء جمهور محدد.
وقال العنبر إن "كل الانتخابات في الأنظمة الديمقراطية تقوم على أساس الدعاية والوعود، وهذا طبيعي، لكن ما يجري في العراق مختلف، إذ إن العملية الانتخابية تعتمد بدرجة أساسية على الزبائن، لا على الناخبين كمواطنين واعين". وأضاف أن "الكثير من الأحزاب السياسية تكرر ذات الشعارات التي تُستهلك إعلامياً، دون أن تكون جزءًا من برنامج عمل واضح تلتزم بتنفيذه".
وأشار إلى أن "الأحزاب لا تقدم برامج جادة تستجيب لتطلعات المجتمع، بل تخاطب جمهورها على أساس ما يريده، دون أي التزام حقيقي تجاه تفاصيل تلك الوعود"، لافتاً إلى أن "الحكومات المتعاقبة بدورها لا تلتزم حتى بالبرنامج الحكومي، بل تكتفي بتكرار الشعارات نفسها التي طُرحت قبل عشرين عامًا".
وشدد على أن "الإصلاح الحقيقي للنظام السياسي هو السبيل الوحيد للخروج من هذه الدائرة، من خلال إنتاج مخرجات سياسية قادرة على إنهاء المال السياسي ومكافحة الفساد"، مضيفًا أنه "عندما تبدأ مكافحة الفساد فعليًا، حينها يمكننا الحديث عن إنهاء توظيف المال السياسي في الانتخابات، والسيطرة على العملية الديمقراطية".
المفوضية لا تمتلك أدلة
عضو الفريق الإعلامي في مفوضية الانتخابات، حسن هادي زاير، تحدث مؤخرا في لقاء متلفز عن إمكانات المفوضية في تحييد المال السياسي ومراقبة الأموال لدى الأحزاب وتحديد مصادرها.
وقال ان "المفوضية تعمل في إطار الأنظمة، ومنها نظام الإنفاق الانتخابي وهذا النظام يبدأ العمل من خلاله بعد المصادقة على المرشحين وبدء الحملة الانتخابية، ولا يمكن وفق هذا النظام محاسبة أي شخص لم يصادق بعد على ترشيحه".
وعن الأموال التي تدفع للمرشحين من طرف الكتل قبل الشروع في حملات الدعاية الانتخابية، والتي تستخدم في استقطاب الناخبين، بيّن زاير ان "المفوضية لا تمتلك ادلة، وهذا أمر خاص بين المرشح وكتلته"، لافتا الى ان "أموال التبرعات للأحزاب شأن خاص. وهناك قيود في قانون الأحزاب تمنع الحصول على أموال بطرق غير مشروعة".
وأشار الى ان "المال السياسي واستخدام موارد الدولة ليس من مسؤولية المفوضية وحدها، بل هو مسؤولية دولة كاملة"، مبينا ان "المفوضية تتابع سجلات الأموال داخل الحزب، ولا تستطيع الاطلاع على الأموال التي تصل الى الأحزاب من أطراف خارجية".