اخر الاخبار

قاد تأخر إقرار الموازنة العامة للعام الحالي، والذي يتكرر سنوياً نتيجة الخلافات السياسية الحادة، إلى تعطيل مشاريع استثمارية وخدمية أساسية، وتجميد الإنفاق الحكومي في قطاعات حيوية. كما أدخل الاقتصاد المحلي في مرحلة تباطؤ ملحوظة، نتيجة تداخل عوامل داخلية وخارجية، عمّقت من الأزمة المالية والمعيشية، وفاقمت الضغوط على الفئات الضعيفة وحتى الفئات المتوسطة.

وفي وقت تعتمد فيه البلاد على النفط كمصدر رئيس للإيرادات، تسبب تراجع أسعاره في الأسواق العالمية خلال الأشهر الأخيرة في تقليص الموارد المالية، وهو ما انعكس سلباً على الإنفاق الحكومي، وقدرته على مواجهة الالتزامات المتزايدة؛ إذ أن الاعتماد المفرط على النفط، وضعف تنويع الاقتصاد وتراجع قدرة الدولة على تنفيذ إصلاحات مالية حقيقية، جعلت البلاد في وضع هشّ تنعكس ارتداداته بشكل مباشر على المواطنين عموما.

مالية البرلمان: تأخر الموازنة غير مبرر

ويصف عضو اللجنة المالية النيابية، معين الكاظمي، تأخر الحكومة في إرسال جداول الموازنة المعدلة إلى مجلس النواب بأنه "أمر غير مبرر"، ويؤثر بشكل مباشر على الوضع الإداري والمالي للبلاد، خصوصاً ما يتعلق برواتب الموظفين والمتقاعدين والمستفيدين من الرعاية الاجتماعية.

وقال الكاظمي، إن "لقاء سابقاً جرى قبل نحو شهر مع رئيس مجلس الوزراء تم خلاله التأكيد على ضرورة الإسراع بإرسال جداول الموازنة"، مضيفاً أن السوداني وجه وزارة المالية بالشروع في إعداد الجداول، وقدمت الوزارة بالفعل نسخاً أولية إلى مجلس الوزراء، لكن بعض الجوانب ما زالت بانتظار رأي من رئيس الوزراء والمجلس الوزاري، ولم يصل أي رد حتى الآن.

وأضاف أن "جداول وزارة المالية معروفة وتشمل رواتب الموظفين والمتقاعدين والرعاية الاجتماعية وشراء الحنطة والأدوية والمصروفات التشغيلية للوزارات. والوزارة تمتلك خبرة متراكمة تخولها إنجاز الجداول خلال أسبوع واحد فقط"، مشيراً إلى أن "الجداول الاستثمارية جاهزة من قبل وزارة التخطيط، وأي تأخير في إرسالها لا يمكن تبريره إلا إذا كانت الحكومة ماضية في تسيير الأعمال وفق تقدير رئيس الوزراء".

ونوّه الكاظمي إلى أن "تأخر المصادقة على جداول الموازنة انعكس سلباً على الموظفين والمواطنين، حيث ربطت وزارة المالية تنفيذ الكثير من الإجراءات الإدارية والمالية بالمصادقة على الجداول، مثل النقل بين الوزارات أو حتى داخل الوزارة الواحدة، بالإضافة إلى صرف العلاوات والترفيعات التي تخص نحو 4 ملايين موظف، فضلاً عن تأثر ملايين المتقاعدين والمشمولين بالرعاية الاجتماعية".

وأشار إلى أن "وزارة المالية إذا ما قررت فك الارتباط بين هذه الإجراءات الإدارية والمالية وبين مصادقة الجداول، فإنها قد تمتص ردود الفعل الغاضبة من تأخرها، خاصة أن الحكومة تواصل الصرف المالي رغم عدم مصادقة البرلمان".

الحكومة تعتمد على جداول 2024؟

وفيما يتعلق بالمشاريع الاستثمارية، أوضح الكاظمي أن "رئيس الوزراء عقد قبل أيام اجتماعاً مع المعنيين لمتابعة المشاريع المستمرة مثل بناء المدارس والمستوصفات والمستشفيات، والتي توقفت خلال الشهرين أو الثلاثة أشهر الماضية"، لافتاً إلى أن "هذا التصرف عليه إشكالات قانونية لأن المادة (77) من قانون الموازنة تلزم الحكومة بتقديم جداول معدلة، ولا يجوز استمرار العمل بجداول موازنة 2024 نفسها في عام 2025".

وبيّن الكاظمي أن "جداول موازنة عام 2024 كانت مُقدّرة بـ211 تريليون دينار، بينما لم يُصرف فعلياً سوى 156 تريليون فقط، لذا فإن اللجنة المالية تطالب الحكومة بتقديم جداول واقعية لا تتجاوز 150 تريليون دينار، وهو مبلغ يمكن تغطيته من الإيرادات النفطية وغير النفطية".

وشدد الكاظمي على أنه "لا يجوز بقاء الوضع على ما هو عليه"، داعياً الحكومة إلى "تقديم الجداول في أقرب وقت، حتى يضع مجلس النواب يده على الملف ويصادق عليها في جلسة واحدة، من دون الحاجة إلى قراءة أولى أو ثانية"، موضحاً أن "عودة البرلمان إلى الانعقاد في 9 تموز المقبل يجب أن تتضمن إدراج جداول الموازنة كأولوية في جدول أعماله".

ضعف الاستقرار وتراجع الدولة عن التزاماتها

أما الخبير الاقتصادي باسم جميل انطوان، فيرى أن الانتعاش الاقتصادي في العراق لا يمكن تحقيقه من دون توفر بيئة آمنة ومستقرة سياسيًا وأمنيًا، مشيرًا إلى أن التوتر الحالي في البلاد ينعكس سلبًا على حركة السوق.

ويقول انطوان في حديث لـ"طريق الشعب"، أن "الأجواء غير المستقرة تدفع المواطنين لتقليص نفقاتهم والتريث في الشراء، وهو ما يؤدي إلى انخفاض الطلب على البضائع ويُسهم في حدوث ركود اقتصادي"، مضيفًا أن "الدولة، من جانبها، تعاني من عجز في تسديد التزاماتها تجاه المواطنين والمقاولين، ما يُفاقم من جمود السوق".

ويضيف أن "انخفاض أسعار النفط، ولو بشكل مؤقت، زاد من حالة القلق في المشهد الاقتصادي، خصوصًا في ظل غياب مؤشرات ثابتة لعودة الأسعار إلى مستويات مطمئنة"، لافتًا إلى أن "الأزمات الاقتصادية لم تعد محلية فقط، بل باتت تؤثر على العالم بأسره، نتيجة اضطرابات في سلاسل الإنتاج والشراء".

ويؤكد أن "المواطن العراقي بات يُفضّل الاحتفاظ بمدخراته بدلاً من ضخها في السوق، تحسبًا لأي تطورات مفاجئة، خاصة في ظل تفاوت قيمة العملة والصرف".

ويجد انطوان أن هذا الانخفاض "يعكس أزمة أعمق في البنية الاقتصادية للعراق"، مشدداً على أن "الاقتصاد المحلي ما يزال “ريعياً” ويعتمد بشكل كامل على إيرادات النفط، دون وجود قاعدة إنتاجية متنوعة في القطاعات الصناعية والزراعية والسياحية والخدمية".

ويوضح أن الحل يكمن في "تحوّل الحكومة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، ما سيؤدي إلى خفض الطلب على الدولار وتقليل خروجه من البلاد"، داعيًا إلى "التركيز على تنشيط القطاعات الإنتاجية بدلاً من الاعتماد فقط على الضرائب والرسوم كمصادر بديلة للدخل".

سببان رئيسيان

من جانبه، رأى الخبير الاقتصادي أحمد عبد ربه أن تراجع مبيعات الدولار في البنك المركزي العراقي في الوقت الحالي، يعكس ركوداً قائماً أصلاً في السوق، نتيجة عوامل عدة، أبرزها انخفاض أسعار النفط وتأخر إقرار الموازنة العامة.

وقال عبد ربه في حديث لـ"طريق الشعب"، إن البلد دخل في الشهر السابع من العام دون موازنة، وهو ما ينعكس سلباً على حركة السوق، إذ أن إطلاق الموازنة غالبًا ما يُفعّل النشاط الاقتصادي من خلال صرف مستحقات المقاولين ومنح العلاوات، مما ينعكس على زيادة الطلب وحركة السيولة.

وأضاف أن ما يدعو "للقلق ليس انخفاض مبيعات الدولار، بل القلق الحقيقي يظهر عندما ترتفع هذه المبيعات بشكل كبير ومبالغ به، لأن ذلك يعكس ضعفاً في الإنتاج المحلي وزيادة في الاعتماد على الاستيراد".

ودعا إلى "توسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد العراقي، لا سيما في مجالي الزراعة والصناعات الغذائية، والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي كخطوة أولى قبل التفكير بالتصدير".

وأشار إلى أن الركود الحالي "لا يرتبط فقط بعوامل مالية، بل أيضاً بتردد الحكومة في إطلاق مشاريع جديدة، نتيجة عدم وضوح الرؤية الاقتصادية في ظل تذبذب أسعار النفط"، مطالباً بإطلاق حزمة اصلاحات جادة.

وفسّر حزمة الاصلاحات المطلوبة بأنها تشمل "الإسراع بإقرار قانون الموازنة، تشكيل مجلس تنسيق اقتصادي أعلى يضم البنك المركزي ووزارة المالية وهيئة الاستثمار، إجراء إصلاحات تشريعية في القطاع المصرفي، إطلاق مشروع الدينار الرقمي العراقي وتوسيع سلة التعاملات التجارية بعملات بديلة عن الدولار، مثل اليوان الصيني، الروبية، واليورو، وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل القومي".

وخلص عبد ربه الى القول إن "استمرار الوضع على حاله سيُبقي السوق في حالة ركود عميق، ما لم تُتخذ قرارات إصلاحية واضحة ومدروسة خلال الفترة القريبة القادمة".

وكشف الخبير في الشأن الاقتصادي منار العبيدي، عن تسجيل البنك المركزي العراقي تراجعاً في إجمالي مبيعات الدولار الأمريكي خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025 بنسبة 4%، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024، محذرًا من أن هذا الانخفاض قد يكون مؤشرًا مبكرًا على دخول السوق العراقية في حالة من الركود.

عرض مقالات: