برغم مرور أكثر من عقدين على التغيير السياسي في العراق، ما تزال الحكومات المتعاقبة تُحجم عن تقديم الحسابات الختامية للموازنات، برغم الإلزام الدستوري والقانوني، في سلوك بات يُنظر إليه على نطاق واسع كغطاء لتبرير الفوضى وحتى الفساد في إدارة المال العام، والتستر على اختلالات مالية باتت متجذّرة في بنية الدولة بعد عام 2003.
ويحذّر خبراء اقتصاديون من أن هذا الإخفاق تجاوز كونه قصورا إداريا فحسب، بعد ان أصبح يُعد ممارسة ممنهجة لإخفاء الانحرافات المالية، ويكرّس منطق الإفلات من المساءلة، ويُضعف أدوات الرقابة البرلمانية، في وقت تتصاعد فيه الدعوات لتصحيح المسار المالي، واعتماد الحوكمة الرشيدة
وفي تشرين الثاني من العام 2023 أصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارا يلزم الحكومة بتقديم الحسابات الختامية مع كل موازنة ترسل الى البرلمان، بناءً على الدعوى التي أقامها سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي رائد فهمي، بعد خوضه الكثير من جولات المرافعات القضائية لحسم هذا الملف، إلا أن الحكومة التي لم ترسل جداول موازنة 2025 حتى الآن الى مجلس النواب، لم تلتزم بهذا القرار، لتضاف هذه السنوات الى سنوات ماضية لم تنجز فيها الحسابات الختامية لغاية اليوم.
تحدٍ للحكومة
واتهم النائب ياسر الحسيني، الحكومة بعدم الالتزام بمبدأ الشفافية المالية، متسائلًا عن مصير الحسابات الختامية للعامين الماضيين، والتي قال إن إنفاقها تجاوز 420 تريليون دينار.
وفي منشور له على صفحته في فيسبوك قال الحسيني: “بعد مقتل البرلمان بنيران الحكومة، نتحدى السوداني أن يرسل الحسابات الختامية للسنتين الماضيتين والتي كانت أكثر من 420 ترليون دينار”.
تجاهل دستوري
في هذا الصدد، أكد الخبير الاقتصادي عبد الرحمن الشيخلي أن الحسابات الختامية، التي تُعد وتُدقّق من قبل ديوان الرقابة المالية، تُعد من أبرز أدوات الشفافية المالية، وتشكّل ركيزة أساسية لضمان سلامة الإنفاق العام ومنع الفساد والعبث في صرف مستحقات الموازنة.
وأوضح، أن الدستور العراقي أشار بوضوح في المادة (62/أولاً) إلى أهمية هذه الحسابات، معتبراً أن عدم تقديمها يمثّل خرقاً دستورياً يُحاسب عليه قانوناً. كما أشار إلى أن هذا الإخلال يتعارض صراحةً مع المادة (34) من قانون الإدارة المالية رقم (6 لسنة 2019)، والتي تنص على وجوب تقديم الحسابات الختامية من قبل المؤسسات الحكومية إلى مجلس الوزراء، تمهيداً لرفعها إلى مجلس النواب.
واعتبر الشيخلي في حديث لـ "طريق الشعب"، الامتناع عن إرسال الحسابات الختامية "خرقاً فاضحاً للدستور وتجاوزاً قانونياً، يجب أن تُحاسب عليه الجهات غير الملتزمة"، مشيراً إلى أن "الحكومات المتعاقبة بعد عام 2003 سعت للتهرب من كل ما من شأنه تعزيز الشفافية، في محاولة للتغطية على تفشي الفساد المالي والإداري الذي استفحل بعد الاحتلال الأميركي".
وأضاف أن غياب هذه الحسابات "يتيح المجال لاستخدام المال العام لأغراض لا تتطابق مع أبواب الموازنة، ويُسهم في توجيه الموارد نحو الكسب السياسي والدعاية الانتخابية، بل وربما لأغراض شخصية، على حساب المصلحة العامة".
واتم الشيخلي حديثه بالتحذير من استمرار هذا النهج، مشدداً على أنه "يعيق رسم سياسات مالية دقيقة، ويفاقم حالة الفوضى المالية، لذا بات من الضروري اعتماد سياسات واضحة للحوكمة الرشيدة وتعزيز الرقابة والمساءلة داخل مؤسسات الدولة".
وقال إنه “على مستوى الأسرة الصغيرة ستواجه مشاكل جمة في حالة غياب الشفافية، فكيف بدولة بحجم العراق تُدار وفق أهواء المتنفذين السياسيين، بعيداً عن أي اعتبار للمصلحة الوطنية؟”.
إفلاتٌ من المساءلة والرقابة
من جانبه، أكد المختص في الشأن الاقتصادي صالح الهماشي أن عدم الالتزام بتقديم الحسابات الختامية، يمثّل أحد أخطر مظاهر الفوضى المالية في العراق، لما يشكله من تهرّب مباشر من المساءلة القانونية والمؤسساتية، وتغييب متعمد للرقابة البرلمانية على الإنفاق العام.
وأوضح الهماشي أن الحسابات الختامية "تُعد بمثابة المرآة التي تعكس الأداء المالي الفعلي للحكومة، بعيداً عن الأرقام التخطيطية المجردة، ومن دونها لا يمكن التحقق من مدى الالتزام بأبواب الموازنة، أو كشف الانحرافات المالية وتحديد المسؤولين عنها".
وأشار في حديث لـ"طريق الشعب"، إلى أن هذا الإهمال المتعمد يتسبب بـ”تدوير الفساد بدل تدوير الفائض حيث يُستغل غياب البيانات الختامية في إعادة توجيه الأموال العامة لجهات نافذة أو لمشاريع وهمية، ما يسهم في ترسيخ بيئة مالية غير منضبطة تخدم مصالح ضيقة على حساب المصلحة الوطنية".
وأضاف الهماشي، أن المادة (34) من قانون الإدارة المالية ألزمت صراحةً جميع الجهات بإعداد وتقديم حساباتها الختامية، وأن عدم الالتزام بذلك لم يُعد فقط مخالفة قانونية، بل يمثل أيضاً مؤشراً على خلل جوهري وهذا الخلل تحول الى سلوك"، داعياً إلى "تفعيل الأدوات الرقابية، سواء من البرلمان أو من ديوان الرقابة المالية، لمواجهة هذا التراخي الخطير".
واعتبر الهماشي أن “استمرار تغييب الحسابات الختامية يُبقي المالية العامة في دائرة العتمة، ويُفرغ الموازنات من مضمونها الرقابي، بل ويحوّلها إلى أداة للترضية السياسية والمحاصصة، بعيداً عن منطق الكفاءة والعدالة في توزيع الموارد”.
وفرغ الى القول أن “التحول نحو شفافية مالية حقيقية لا يبدأ بطرح الخطط الرنانة، وانما بإرساء الالتزام الصارم بالحسابات الختامية وتقديمها للرأي العام”، مشدداً على أن “أي إصلاح اقتصادي جاد لا يمكن أن ينهض في ظل دولة لا تلتزم مؤسساتها بأبسط معايير الشفافية والإفصاح المالي”.
الاتحادية تلزم والحكومة تتجاهل!
وفي حديث سابق للمحامي زهير ضياء الدين، الى "طريق الشعب"، أكد أن "الالزام الذي صدر عن المحكمة الاتحادية يضع الحكومة امام مسؤولية انجاز الحسابات الختامية، وحتى من دون قرار المحكمة الاتحادية يجب على الحكومة والبرلمان انجاز الحسابات الختامية".
وأوضح ضياء الدين، ان "الدولة ومؤسساتها ملزمة بتقديم الحسابات الختامية للسنة السابقة مع كل موازنة ترسل الى مجلس النواب، لغرض تدقيقها ومعرفة تفاصيلها لغرض تشخيص الخلل ومعرفة وجه القصور، لكن هذا الموضوع مهمل بشكل كبير ومنذ سنوات".