اخر الاخبار

تتفاقم أزمة المياه في العراق بشكل مقلق، في ظل انخفاض كبير في الإيرادات المائية من تركيا، وتضارب التصريحات الرسمية بين الجهات المعنية، ما أثار موجة استياء عارمة لدى أوساط شعبية وبيئية وزراعية، وسط تحذيرات من كارثة وشيكة تهدد أمن البلاد المائي والغذائي.

فرغم إعلان رئيس مجلس النواب محمود المشهداني، عقب زيارة رسمية إلى تركيا مطلع تموز الجاري، عن اتفاق مع أنقرة لإطلاق 420 متراً مكعباً من المياه في الثانية باتجاه نهري دجلة والفرات، إلا أن وزارة الموارد المائية، اشارت إلى أن ما يصل فعلاً لا يتجاوز 353 متراً مكعباً في الثانية، وهو أقل بكثير من الحاجة الفعلية المقدّرة بـ600 متر مكعب يومياً.

شح مائي ووعود مؤجلة

المتحدث باسم الوزارة خالد شمال وصف الوضع المائي في البلاد بأنه "صعب ومعقد"، مشيراً إلى ارتفاع درجات الحرارة وقلة الإطلاقات من تركيا كعاملين رئيسيين في تراجع الإيرادات. وأكد أن الوزارة حصلت على وعود من أنقرة بزيادة الإطلاقات، متأملاً أن تنعكس هذه الوعود على الأرض.

وشدد شمال على أهمية ترشيد الاستهلاك ومواجهة التجاوزات، إلا أن خبراء مائيين رأوا أن الأزمة تفوق بكثير الحلول الظرفية، محذرين من أن العراق يقترب من انهيار مائي شامل.

بعد زيارة المشهداني الأخيرة إلى تركيا الأسبوع الماضي، التي أعلن فيها عن موافقة الجانب التركي على إطلاق ما يقارب الـ 420 مترًا مكعبًا في الثانية من المياه في نهري دجلة والفرات، اكدت وزارة الموارد المائية أن نسبة الإطلاقات المائية من تركيا تغطي ‎%‎50 من حاجة العراق الفعلية للمياه، في إشارة الى وجود مغالطات في تصريح رئيس مجلس النواب محمود المشهداني بشأن زيادة الاطلاقات المائية.

خزين مائي ينذر بالخطر

بحسب المستشار البيئي عادل المختار، فإن سد الموصل، الذي يُعد من أكبر خزانات المياه في العراق، لا يحتوي حالياً إلا على مليار متر مكعب قابل للاستخدام، بينما يحتجز مليارين آخرين كخزين ميت، ما يعني إمكانية نفاد المياه فيه خلال أسابيع.

وأشار إلى أن مجموع الخزين المائي في البلاد حالياً يقل عن 9 مليارات متر مكعب (3 مليارات في الفرات و5 إلى 5.5 في دجلة)، وهي أرقام وصفها بأنها "مرعبة" عند استبعاد المخزون غير القابل للاستغلال.

المختار حمّل الحكومة والوزارة المسؤولية الكاملة، مشيراً إلى أن العراق فقد في عامين فقط أكثر من نصف خزينه المائي الذي بلغ 21 مليار متر مكعب، بسبب قرارات غير مدروسة، مثل التوسع في زراعة الشلب والحنطة دون توفر المياه الكافية.

وأثار تضارب التصريحات بين رئاسة مجلس النواب ووزارة الموارد المائية تساؤلات كثيرة حول شفافية الحكومة في إدارة الملف المائي. ففي الوقت الذي يؤكد فيه المكتب الإعلامي للمشهداني أن تركيا بدأت فعلاً بإطلاق الدفعات الإضافية المتفق عليها، تصر الوزارة على أن ذلك لم يتحقق بعد.

ويقول الوزير عون ذياب، إن الاتفاق مع تركيا يتضمن إطلاق 420 مترًا مكعبًا في الثانية لشهري تموز وآب، لكن الواقع يشير إلى ورود كميات أقل بكثير، محذراً من أن هذا الفارق سيؤثر بشدة على الخطة الزراعية والمياه الصالحة للشرب.

تهديد مباشر للأمن الغذائي

من جانبه، أكد رئيس لجنة الزراعة والمياه والأهوار النيابية، فالح الخزعلي، أن تركيا لم تلتزم بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بتقاسم المياه، متهماً إياها بممارسة "حرب حقيقية" ضد العراق عبر ملف المياه.

وقال الخزعلي في بيان، إن "أي زيادة في الإطلاقات المائية من تركيا لم تتحقق حتى الآن"، لافتاً إلى أن "ما يصل من نهري دجلة والفرات لا يتجاوز 350 متراً مكعباً في الثانية، في وقت يحتاج فيه العراق إلى ما لا يقل عن 800 متر مكعب في الثانية لتأمين متطلباته الزراعية والبيئية".

وأشار إلى أن "ما يصل من تركيا لا يغطي حتى نصف الحاجة الفعلية، ما يمثل تهديداً مباشراً للأمن الغذائي في العراق"، مؤكداً أن "انعكاسات هذا النقص أثرت بشكل كبير على نوعية وكمية المياه في شط العرب".

بدوره، أكد الخبير المائي تحسين الموسوي أن العراق يواجه أسوأ أزمة مائية في تاريخه، مشيراً إلى أن أكثر من 8 مليارات متر مكعب تُفقد سنوياً بسبب التبخر وحده في فصل الصيف، ما يجعل الخزين المتبقي غير كافٍ حتى للاستخدام المنزلي في بعض المحافظات.

وأشار الموسوي إلى أن البصرة تواجه كارثة حقيقية، حيث أصبحت تعتمد على صهاريج المياه، وهو "مشهد خطير ومؤلم"، بحسب وصفه، محذراً من "موت تدريجي" بدأ بالفعل بفقدان الخطط الزراعية وتنوع البيئة، وظهور موجات هجرة داخلية واسعة من الريف إلى المدن.

كما اعتبر أن الإطلاقات التركية الأخيرة، وإن تحققت، لا تمثل حلاً بل "تسكيناً مؤقتاً"، ولا يمكن البناء عليها لمواجهة أزمة شاملة في ظل انعدام التخطيط وغياب الإدارة الرشيدة.

مفاوضات بلا نتائج

وفي ظل غياب اتفاقات دائمة وملزمة مع دول المنبع، وعلى رأسها تركيا وإيران، تبقى أزمة المياه في العراق رهينة الأزمات السياسية والتقلبات المناخية.

الباحث في الشأن البيئي خالد سليمان شدد على ضرورة توقيع اتفاقية دائمة بين العراق وتركيا تضمن حصة مائية عادلة وثابتة للعراق، بعيداً عن الحلول الظرفية.

وقال سليمان، إن الإطلاقات المؤقتة ليست إلا "عطاءات مشروطة"، موضحاً أن استمرار غياب الاتفاقات الرسمية سيقود إلى صراعات داخلية، خاصة مع تصاعد النزاعات بين المحافظات والعشائر بسبب تقاسم المياه.

وأشار إلى أن أكثر من 120 ألف شخص نزحوا من قراهم في السنوات الأخيرة بسبب الجفاف، ما زاد الضغط على المدن التي تعاني أصلاً من ضعف البنية التحتية، ما ينذر بانفجار اجتماعي.

أما المتخصص في شؤون المياه، ظافر عبد الله، فقد قال إن المفاوضات مع تركيا وإيران بشأن تقاسم المياه استمرت لأكثر من خمسين عاماً دون نتائج ملموسة، بسبب غياب الإرادة السياسية داخل العراق من جهة، واستغلال دول الجوار لأوضاع العراق الأمنية والسياسية من جهة أخرى.

وأشار عبد الله إلى أن العراق لم ينجح في تحويل ملف المياه إلى قضية سيادية، وأن سوء الإدارة الداخلية أسهم في إضعاف موقف البلاد التفاوضي، مطالباً بوضع خطة وطنية موحدة تُلزم جميع المحافظات والمؤسسات بحماية الموارد المائية وتوظيفها بشكل رشيد.

تدهور الزراعة وغياب التقنيات

فيما كشف مستشار وزارة الزراعة مهدي القيسي عن أن الخطة الزراعية للعام الحالي مهددة بشكل جدي، بفعل انخفاض الخزين المائي وغياب التقنيات الحديثة، وتفاقم التجاوزات في المحافظات الجنوبية.

وقال القيسي إن الموسم الحالي يُصنف ضمن "الخطر الشديد"، وأن المساحات المزروعة ستُقلص بشكل كبير. كما أشار إلى أن وزارة الزراعة دعمت أنظمة الري الحديثة خلال العامين الماضيين، لكنها لم تُطبق بشكل واسع بسبب ضعف الالتزام، ما يزيد من استنزاف المياه.

وحذّر القيسي من أن محافظة البصرة تواجه تهديدًا مباشرًا في مياه الشرب، في ظل تراجع النوعية وزيادة نسبة التلوث، مؤكدًا أن الحل الوحيد هو إبرام اتفاقات ملزمة مع دول الجوار لتحديد الحصص المائية سنويًا، بما يضمن استقرار الزراعة والأمن الغذائي.

وفي ظل هذه التطورات، تبقى أزمة المياه في العراق مرشحة للتصاعد، لا سيما مع استمرار التضارب بين التصريحات الرسمية، وغياب رؤية استراتيجية واضحة لإدارة المياه.

وبينما يرى الخبراء أن الأزمة تأتي بفعل الجفاف وتراجع الإطلاقات من دول الجوار، وفشل داخلي مزمن في إدارة الموارد، فإن التحدي الأكبر اليوم يكمن في إيقاف هذا النزف قبل أن يتحول إلى أزمة لا رجعة منها.

عرض مقالات: