تحل ذكرى ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة، والعراقيون يستحضرون أحد أكثر اللحظات تأثيراً في تاريخهم المعاصر، عندما أطاح تحالف الجيش مع الشعب بالنظام الملكي وأعلن قيام الجمهورية العراقية.
وشكلت الثورة منعطفاً حاسماً في حياة العراقيين، إذ أنهت عقوداً من الحكم الملكي الوراثي والارتباط بالسياسات البريطانية، وأطلقت موجة من التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواسعة. وفي غضون سنوات قليلة، شهد العراق تحولات كبرى شملت توزيع الأراضي على الفلاحين، وتوسيع فرص التعليم، وتعزيز الهوية الوطنية المستقلة، والمواطنة العراقية الجامعة.
ما انفكت محاولات تغييب لحظة تموز برغم كل ما أنجزته الثورة من خطوات باتجاه العدالة الاجتماعية والاستقلال السياسي الكامل، ولم تُمنح المكانة الرسمية التي تليق بها، إذ غُيّبت قسرا عن قائمة الأعياد الوطنية الرسمية، في ظل منظومة حاكمة تتجنب الاعتراف بالمحطات الوطنية الجامعة، لحساب محطات فئوية أو طائفية لا تحظى بإجماع شعبي واتخاذ ذلك عنوانا لإدامة النفوذ والهيمنة.
وبينما تتسابق أطراف السلطة على طمس التاريخ أو القفز عليه، يصرّ مثقفون وسياسيون وأكاديميون على استحضار "لحظة تموز" بوصفها صرخة تحرّر، ومشروع دولة حُرمت من فرصتها في الاكتمال، لكنها ما تزال تلهم المتطلعين إلى غد أفضل بإمكانية التغيير.
تحول تاريخي حقيقي
في هذا الصدد، قال الكاتب والصحفي فلاح المشعل إن ثورة 14 تموز 1958 تمثل محطة تاريخية مجيدة ونقطة تحوّل حاسمة في تاريخ العراق الحديث، إذ أنها أنهت الحكم الملكي وأعلنت قيام الجمهورية العراقية بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، أول رئيس عراقي يتولى هذا المنصب في ظل دولة مستقلة ذات سيادة.
وأوضح المشعل في حديث مع "طريق الشعب"، أن عبد الكريم قاسم “كان ضابطاً معروفاً بانتمائه الوطني وروحه العراقية الخالصة”، مشيرًا إلى أن الثورة "جاءت نتيجة تراكم السخط الشعبي والوطني على النظام الملكي الذي كان واقعًا تحت الهيمنة البريطانية، ومتناقضًا مع تطلعات القوى الوطنية، سواء من اليساريين أو الشيوعيين أو القوميين".
وأضاف أن ثورة تموز "لم تكن انقلاباً عسكرياً، وانما جاءت بمشروع تحولي حقيقي تضمن مكتسبات اجتماعية واقتصادية وتعليمية، ورسّخت مفاهيم الدولة الحديثة والعدالة الاجتماعية، ما يجعلها جديرة بتوصيفها كثورة بكل معنى الكلمة".
وانتقد المشعل قرار الحكومة أو البرلمان الحالي بشطب ذكرى الثورة من قائمة الأعياد الوطنية، قائلاً: “أستغرب كيف تجرأت الحكومة أو البرلمان على إلغاء هذه الذكرى، وهي المناسبة الوطنية الأهم، العيد الوطني الحقيقي للعراقيين”.
ورأى أن هذا القرار قد يكون ناتجاً عن تأثير بعض “العقليات الرجعية” أو خصوم عبد الكريم قاسم، أو أولئك الذين يضمرون عداءً تاريخيًاً لليسار أو لمفهوم الجمهورية الحقيقية في العراق".
واختتم بالقول إن الثورة “أنقذت العراق من عهد بائد، وأسست لعهد جديد”، داعيًا إلى مراجعة هذا الموقف الرسمي والإقرار مجددًا بأهمية هذه المناسبة في الذاكرة الوطنية العراقية.
انطلاق نحو عراق عادل
من جهته، أكد المنسق العام للتيار الديمقراطي العراقي أثير الدباس، أن ثورة 14 تموز 1958 تمثل لحظة مفصلية في تاريخ العراق الحديث، وجسّدت إرادة شعب كافح ضد الاستبداد والتبعية، وسعى إلى إقامة دولة العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية.
وقال الدباس في حديث مع "طريق الشعب"، إن فجر الرابع عشر من تموز كان زئيرًا للحرية وقلب الطاولة على الاستعمار وأدواته، معلنًا نهاية حقبة الحكم الملكي وبداية مشروع وطني تحرري بقيادة رجال من طراز خاص".
وأضاف أن الثورة "رغم قصر عمرها السياسي، استطاعت خلال سنوات معدودة تحقيق تحولات كبرى، أبرزها إصدار قانون الإصلاح الزراعي، وإنهاء الإقطاع، وتوسيع التعليم المجاني، وبناء المستشفيات والمدارس، والشروع بقاعدة صناعية وطنية، إلى جانب الانسحاب من حلف بغداد وتبني سياسة عدم الانحياز".
وأشار الدباس إلى أن تموز "جمعت بين القرار الوطني المستقل، والإرادة الشعبية، والعدالة الاجتماعية، وهو ما رسّخ مكانتها في الذاكرة الجمعية للعراقيين رغم محاولات التشويه والإقصاء".
وفي تعليقه على الحاضر، قال إن الثورة اليوم “مطاردة في مناهج التعليم، مُقصاة من احتفالات الدولة”، في وقت “يتسلط فيه من لا يجيدون سوى إنتاج الأزمات وتقاسم الغنائم”، وتسيطر على الحكم منظومة تقوم على المحاصصة والفساد، محوّلة الدولة إلى “غنيمة للطائفة والحزب المتنفذ والعشيرة”.
واستذكر الدباس الفارق الجوهري بين من قاد الثورة، وبين من يحكم اليوم، قائلاً: “بينما كان قادة الثور ينامون دون حماية بين أبناء شعبهم، يعيش المسؤولون اليوم خلف جدران الكونكريت وقوافل الحمايات، وبينما قدّمت ثورة تموز مشاريع حقيقية للفقراء، تُقدّم لنا السلطة الحالية ميزانيات انفجارية تنتهي في جيوب الفاسدين”.
وشدّد على أن العراقيين اليوم بحاجة ماسة إلى قِيَم تموز، لا إلى استنساخها، بل إلى الجرأة في اتخاذ القرار الوطني، والنزاهة في إدارة الدولة، ومشروع وطني شامل يستعيد الدولة من قبضة الفساد والخراب.
واتم حديثه بالقول: “في زمن تتسابق فيه أحزاب السلطة على طمس الذاكرة، تبقى تموز صرخة في وجه النسيان، تقول إن التغيير ممكن، لا بل ضروري، إذا ما امتلكنا شجاعة رجال الثورة الأوائل وانحيازهم للشعب والعدالة”.
ثورة بلا عيد
الى ذلك، قال استاذ العلوم السياسية، د. عامر حسن فياض إن الاحتفاء بثورة الرابع عشر من تموز يجب أن يكون بهدف استذكار دروس النجاح، وتجاوز إخفاقات الماضي، لا للاعتياش على الذكرى أو اجترارها، بل لتحويلها إلى محفز للانتقال نحو مستقبل أفضل يليق بالعراق وشعبه.
ونوه في حديث لـ "طريق الشعب"، ان “العراق لا يستحق ماضيه القديم، ولا حاضره الحالي، بل يستحق مستقبلًا يتجاوز كليهما”، مشيرًا إلى أن "ثورة تموز 1958 كانت ثورة حقيقية بكل المقاييس، سواء من حيث الأسباب والدوافع أو النتائج، إذ جاءت لتُطيح بواقع سياسي لم يكن في صالح العراقيين، وخصوصًا الطبقات الفقيرة".
وأوضح أن الثورة "برغم طابعها الشعبي والتنظيم المحكم الذي قادتها به القوى الوطنية، لم تكن محل ترحيب لدى خصومها في الداخل والخارج، وهو ما ساهم لاحقًا في الالتفاف عليها وتقويض مسارها".
وانتقد فياض غياب الأعياد السياسية والوطنية عن قانون العطل الرسمية في العراق، قائلًا: “من الغريب أن العراق، بكل تاريخه وتضحياته، هو البلد الوحيد الذي لا يمتلك أعيادًا وطنية سياسية حقيقية. القانون الحالي يتضمن نحو 12 عطلة، 10 منها دينية واثنتان مهنية، دون أن تُخصص أي عطلة للمرأة أو للثورات والأحداث الوطنية”.
واختتم بالقول ان “من الطبيعي أن يكون للعراق عيد سياسي على غرار ما تحتفل به شعوب العالم، فهذه مناسبات تستحق أن تُخلّد رسمياً في ذاكرة الأمة”.