كشف تقرير صندوق النقد الدولي قبل أيام، عن استمرار تسجيل عجز كبير في الميزانية العراق غير النفطية، كما توقع الصندوق أن يقفز الدين الحكومي إلى 62.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2026، بعد أن ظل مستقراً عند 47.2% في 2024 و2025. ولفت الصندوق أيضاً إلى ارتفاع مخاطر الديون السيادية للعراق مما يستدعي تدخلاً عاجلاً على مستوى السياسات. كما أشار إلى أنه يتعين على السلطات ضبط مستوى الدين على المدى المتوسط.
ولكي تتفادى بغداد العراقيل المالية، فهي بحاجة لإجراء إصلاحات جوهرية لزيادة الإيرادات غير النفطية، والسيطرة على فاتورة أجور القطاع العام، وتعزيز إمكانات النمو غير النفطي، من خلال وضع أجندة إصلاح هيكلي طموحة، بحسب التقرير.
اقتصاد يفقد قدرته على النمو
خبير الاقتصاد الدولي د. نوار السعدي، يرى ان ما ورد في تقرير صندوق النقد الدولي بشأن العراق يشكّل تحذيراً جدياً يجب أن يُقرأ بتمعّن لا باعتباره أرقاماً تقنية معزولة، بل كمرآة دقيقة لحالة اقتصادية مضطربة تتفاقم بصمت.
وقال السعدي لـ"طريق الشعب"، انه "حين نتحدث عن انكماش في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.3% خلال عام 2024، فنحن لا نصف حالة ركود عابرة، بل نتحدث عن اقتصاد يفقد قدرته على النمو الذاتي خارج إطار الإيرادات النفطية"، مبينا ان "المشكلة لم تعد مرتبطة فقط بتقلبات السوق العالمية أو الانكماش في الأسعار، بل أصبحت بنيوية، تتعلق بعجز حقيقي في هيكل الاقتصاد الوطني وفقدان الفعالية في التخطيط والإدارة".
فقدان الأدوات الدفاعية
وأوضح، ان "التقرير يشير إلى أن العراق يتجه من وضع الفائض في الحساب الجاري إلى وضع العجز، بالتزامن مع تقلص الاحتياطيات الأجنبية بوتيرة مقلقة. هذا المسار إن استمر، يعني أن العراق لن يكون معرضاً فقط لانكشاف مالي، بل لفقدان أدواته الدفاعية في حال حدوث أي صدمة خارجية، سواء كانت في أسعار النفط أو في الجغرافيا السياسية المحيطة. هنا لا بد من التوقف عند نقطة بالغة الخطورة، وهي أن الاحتياطي الأجنبي الذي كان يوصف دائماً بأنه صمّام أمان، سيبدأ بالتآكل تدريجياً من دون أي غطاء اقتصادي بديل، لأن الإيرادات لا يعاد تدويرها في الداخل لخلق نمو حقيقي أو فرص إنتاجية مستدامة".
ونوه الخبير الاقتصادي، الى ان "اللافت أن التقرير يشير إلى استقرار نسبي في معدل التضخم وسعر صرف الدينار، وهذه مؤشرات لا يجب النظر إليها كدليل على عافية اقتصادية، بل كاستقرار هش فوق أرضية غير متينة. فالتضخم المنخفض في العراق لا يعكس بالضرورة قوة في الاقتصاد، بل في كثير من الأحيان يعكس ركوداً في الطلب العام وغياب حركة حقيقية في السوق. أما استقرار سعر الصرف، فهو في الوقت الراهن ثمرة لتدخلات مكثفة من قبل البنك المركزي، وليس نتيجة توازن طبيعي بين العرض والطلب على العملة الصعبة".
استثمار أجنبي صفري!
وأشار السعدي، الى ان "ما يثير القلق أيضاً هو أن العراق سيصل إلى عام 2026 بمعدل استثمار أجنبي مباشر يساوي الصفر، وهو أمر يكشف عمق أزمة الثقة في البيئة الاقتصادية والقانونية للبلد"، مشيرا الى ان "البيئة الطاردة للاستثمار لا تتعلق فقط بالأمن، بل البيروقراطية والفساد وتضارب التشريعات، وهذا كله يضعف أي فرصة للنمو خارج قطاع النفط. وفي ظل ارتفاع عدد السكان إلى أكثر من 44 مليون نسمة، ومعدل فقر لا يزال يتجاوز 23% بحسب بيانات قديمة نسبياً، فإن غياب الاستثمارات والفرص الإنتاجية يعني اتساع دائرة الفقر والبطالة والتبعية للموازنة العامة".
وأنهى السعدي حديثه بالقول: ما أقرأه من هذا التقرير هو أن العراق يسير في مسار خطير من التراجع الهيكلي البطيء، حيث يتم استهلاك الفوائض دون أن يتم إنتاج مصادر جديدة للدخل، وتستمر الحكومة في اعتمادها الكلي على الريع النفطي، دون أي جهد جاد لإعادة هيكلة الإنفاق أو تنويع الإيرادات. وفي ظل هذا النهج، فإن كل حديث عن تنمية أو إصلاح سيبقى مجرد أمنيات، ما لم تقترن الإرادة السياسية بخطة اقتصادية شجاعة تبدأ من مراجعة كاملة لنموذج الدولة الريعية وتنتقل إلى مرحلة بناء اقتصاد إنتاجي قادر على الصمود والمنافسة".
مخلص التقرير
وفي اتصال مع الأكاديمي والخبير الاقتصادي، نبيل المرسومي، خص "طريق الشعب" بملخّص لتقرير صندوق النقد الدولي، يشخص جوانب الضعف في الاقتصاد العراقي، نورده كما وصل للجريدة:
أولا: يواجه العراق تهديداً بتفاقم العجز المالي على المدى المتوسط إثر تراجع إيرادات النفط بسبب انخفاض الأسعار فضلاً عن تزايد معوقات التمويل، في الوقت الذي ارتفع فيه تقدير سعر الخام اللازم لتحقيق التعادل في الميزانية ما يزيد عن 55%.
ثانيا: يتوقع أن تؤدي قيود التمويل وانخفاض إيرادات النفط الإنفاق المالي، الى التأثير سلبيا على النشاط الاقتصادي.
ثالثا: أدى التوسع المالي الكبير في السنوات الأخيرة إلى تزايد مواطن الضعف في البلاد، ما فاقمه الانخفاض الأحدث في أسعار النفط.
رابعا: يُنتظر أن تسجل المالية العامة للعراق تراجعاً ملحوظاً، إذ يُقدر العجز في الموازنة العامة بنحو 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، ليتسع إلى 7.5% في 2025، ثم 9.2% في 2026. يأتي ذلك في ظل انخفاض الإيرادات النفطية من 36% من الناتج في 2024 إلى 31% في 2026، مقابل ارتفاع في الإنفاق العام من 43.5% إلى 43.8% خلال الفترة ذاتها، لا سيما في بند الأجور والرواتب الذي سيصل إلى 24.5% من الناتج في عام 2026.
خامسا: رفع سعر النفط اللازم لتحقيق التوازن المالي في العراق إلى 84 دولاراً للبرميل في 2024 من 54 دولاراً في 2020، بسبب التوسع في الإنفاق وضعف الإيرادات غير النفطية.
سادسا: أشار التقرير إلى استمرار تسجيل عجز أولي كبير في الميزانية غير النفطية للعراق، والذي سيبلغ نحو 59.3% من الناتج المحلي غير النفطي في 2024، ويتراجع تدريجياً إلى 51.8% بحلول 2026. كما توقع الصندوق أن يقفز الدين الحكومي إلى 62.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2026، بعد أن ظل مستقراً عند 47.2% في 2024 و2025.
سابعا: تباطأ نمو القطاع غير النفطي بالعراق إلى 2.5% في 2024 من 13.8% في 2023، وفق تقديرات صندوق النقد الصادرة اليوم، ويُتوقع أن يتفاقم التباطؤ إلى نمو عند 1% فحسب في العام الجاري، قبل أن يتحسن قليلاً إلى 1.5% في العام المقبل، ما يعكس هشاشة الاقتصاد غير النفطي.
ثامنا: توقع الصندوق أن يقفز الدين الحكومي إلى 62.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2026، بعد أن ظل مستقراً عند 47.2% في 2024 و2025.
هشاشة الاعتماد على النفط
من جانبه، قال الباحث بالشأن الاقتصادي، احمد عبد ربه، ان "تقرير صندوق النقد الدولي يؤشر تحديات هيكلية آخذة في التراكم على الاقتصاد العراقي، خاصة مع التباطؤ الحاد المتوقع في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 بنسبة 2.3%، وهو أول انكماش اقتصادي منذ سنوات، ما يعكس هشاشة النمو المعتمد على صادرات النفط وظروف السوق العالمية.
واضاف، انه "رغم التوقعات بتحسّن النمو في 2025 و2026، أجد انه أقل بالنسبة للزيادة السكانية السنوية، مما يعني أن النمو الاقتصادي الحقيقي للفرد سيبقى راكدا أو سلبيا، إذا ما أُخذنا ارتفاع نسب الفقر (23%) وضعف الإنتاجية في الاعتبار".
ورأى الباحث الاقتصادي، ان "تراجع الاحتياطيات الأجنبية بمعدل يقارب 21 مليار دولار خلال ثلاث سنوات، يشير إلى أن الاقتصاد العراقي يواجه ضغوطًا مزدوجة: "ضغوط خارجية تتمثل في تراجع أسعار النفط أو انخفاض صادراته؛ ضغوط داخلية تتمثل في ارتفاع الإنفاق التشغيلي وعدم تنويع مصادر الإيراد؛ كما ان ثبات سعر الصرف الرسمي للدينار في ظل انكماش اقتصادي وتقلص احتياطيات، يعني أن السياسة النقدية للبنك المركزي تراهن على الحفاظ على استقرار العملة مقابل ضغوط متزايدة، وهذا قد لا يكون مستدامًا دون دعم مالي خارجي أو إصلاحات هيكلية".
إصلاحات مؤسسية حقيقية
وأوضح، ان "الأمر الأكثر إثارة للقلق هو جمود الاستثمار الأجنبي المباشر (0%)، وهو مؤشر يعكس فقدان بيئة الأعمال لجاذبيتها في ظل غياب الإصلاحات المؤسسية وتفشي البيروقراطية وعدم وضوح السياسات الضريبية وضعف القضاء على الفساد".
واقترح عبد ربه، ان "تبدأ الحكومة بإعادة هيكلة الإنفاق العام وتحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي مع إطلاق إصلاحات مصرفية وضريبية ومؤسسية حقيقية. مع اهمية تسريع تنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط".
ويخلص الى انه "من دون هذه الإجراءات، فإن ما يلوح في الأفق ليس مجرد عجز مالي، بل حلقة ضعف اقتصادي ممتدة قد تؤثر على استقرار العملة والسلم الاجتماعي والنمو طويل الأمد".