اخر الاخبار

في مشهد مهيب يليق بعظمة المناسبة، احتشدت جماهير واسعة، أمس الاثنين، في ساحة التحرير وسط بغداد، إحياءً للذكرى السابعة والستين لثورة الرابع عشر من تموز 1958. في فعالية وطنية جسدت الوفاء لثورة غيّرت وجه العراق، ووقفة احتجاجية صاخبة ضد واقع اختطفته منظومة المحاصصة والفساد، وسط حضور لافت لقوى وطنية ونقابية وشخصيات سياسية واجتماعية، أكدت جميعها المضي بثبات نحو مشروع التغيير الجذري.

وقبل يوم من إحياء المناسبة في ساحة التحرير، دعا الحزب الشيوعي العراقي الى اعتبار يوم ١٤ تموز عيدًا وطنيًا ويومًا لتأسيس الجمهورية، لما له من قيمة وطنية وشعبية، وقبول من أطياف الشعب العراقي كافة، وكونه رمزًا من رموز الكفاح الوطني للخلاص من التبعية ولنيل الحرية والاستقلال والسيادة الكاملتين.

الثورة أسست للعدالة والسيادة

وانطلقت الفعالية من ساحة النصر، حيث توجّه المشاركون سيرًا على الأقدام نحو ساحة التحرير تحت نصب الحرية، رمز الشعب المنتفض والحالم بالكرامة والسيادة والعدالة الاجتماعية. وعند الوصول، افتتح الرفيق أيوب عبد الحسين الحفل بكلمة ترحيبية أعادت التأكيد على أن "14 تموز لم تكن يومًا عاديًا في التاريخ العراقي، بل لحظة فارقة في وجدان الناس، عندما نهض الشعب بجيشه ليعلن الكلمة الفصل ضد الاستبداد والتبعية".

الكلمة الافتتاحية للاحتفال شددت على أن "ساحة التحرير اليوم لا تحتفي بذكرى غابرة، بل تحتضن جوهر الثورة وقيمها المتجددة. فثورة 14 تموز أرست أسس السيادة الوطنية، وأسقطت الحكم الملكي التابع، وأطلقت برامج الإصلاح الزراعي، ومجانية التعليم، وبناء الصناعة الوطنية، ومكّنت المرأة من خوض غمار الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية".

لم تخلُ الكلمات من انتقادات حادة للواقع الراهن، حيث اتهمت القوى الحاكمة بتقويض ما تحقق من منجزات وطنية، وقالت: "غُيّبت العدالة، وأُهملت الخدمات، وضُرب التعليم، وانعدمت فرص العمل، وتكرّس التمييز الطائفي على حساب المواطنة، حتى باتت الدولة مرتعًا للفئوية والغنائم".

المشاركون في الفعالية لم ينسوا اجراء المتنتفذين بإلغاء العطلة الرسمية ليوم 14 تموز، معتبرين ذلك "تنكّرًا صريحًا للثورة ومحاولة مكشوفة لطمس ذاكرتها من الوعي الجمعي"، مؤكدين أن "المنظومة الحاكمة تخشى روح تموز، وتخشى أن تعود إرادة الشعب لتصنع الفجر الجديد".

نعيش نقيض حلم الثورة

وخلال الفعالية، ألقت السيدة سهير القيسي، كلمة اللجنة المركزية لتخليد ثورة 14 تموز، التي حملت بُعدًا تحليليًا عميقًا لوضع البلاد، وربطًا بين إنجازات الثورة وتراجع الوضع الراهن.

قالت القيسي: "في فجر 14 تموز 1958، لم يكن العراقيون على موعد عادي مع التاريخ، بل مع ولادة صفحة جديدة في سجل الكرامة الوطنية. لقد أشرقت شمس الحرية، وسقط نظام التبعية، وبدأت ملامح عراق جديد يرسمه أبناؤه لا أوصياء عليه".

وأضافت ان "ثورة تموز كانت انحيازًا كاملاً للشعب، وصرخة في وجه الظلم، ورهانًا على دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية. خلال سنوات قليلة، أنجزت الثورة ما لم تحققه أنظمة حكم عقودًا طويلة: أنهت الإقطاع، وأطلقت التعليم المجاني، وشيدت آلاف المدارس والمستشفيات، وأرست قاعدة وطنية للصناعة، وحررت القرار السياسي من الهيمنة الأجنبية".

القيسي أكدت أن "تموز لم تكن مجرد انقلاب في السلطة، بل محطة تأسيسية بين القرار الوطني والإرادة الشعبية، ولهذا لم تُنسَ رغم محاولات التغييب والتشويه من السلطات المتعاقبة، التي تنكرت لأبسط مبادئ الثورة وطمستها من المناهج والاحتفاء الرسمي".

وتابعت "نعيش اليوم نقيض حلم تموز. فالسلطة الحاكمة غارقة في المحاصصة، حولت الدولة إلى مزرعة حزبية، وتخاف حتى من أصوات الناس. لم تعد الدولة مشروعًا وطنيًا بل تحولت إلى غنيمة، فيما تمتهن الكرامة وتُنهب الثروات، وتُصادر الحقوق، وتُستبدل دولة المواطنة بدولة الولاء الحزبي والطائفي".

واختتمت القيسي كلمتها بالقول: "لسنا بحاجة لاستنساخ تموز، بل لاستحضار روحها. بحاجة إلى شجاعتها، ووطنيتها، ونزاهتها. إلى مشروع وطني يعيد الثقة للمواطن، ويستأصل الفساد من جذوره. تموز ليست ذكرى بل امتحان متجدد لضميرنا السياسي. العراق لا يزال يستحق الأفضل، والتغيير ليس ترفًا، بل ضرورة وطنية".

صوت العمال

من جهته، ألقى النقابي عدنان الصفار كلمة النقابات والاتحادات العمالية، التي اعتبرت ثورة تموز محطة لا تمحى في الذاكرة الطبقية والوطنية، إذ أعادت الاعتبار لدور الطبقة العاملة، وساهمت في تحقيق تحولات جذرية في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية.

وقال الصفار ان "ثورة تموز لم تكن مجرد تغيير سياسي، بل إعلان حقيقي لتحول اجتماعي وإنساني، أنهى الحكم الملكي التابع، وأطلق جمهورية العدالة والمساواة والسيادة". وأضاف أن "الثورة شرعت قانون الإصلاح الزراعي، وأرست أسس الصناعة الوطنية، وأطلقت مشاريع التعليم والصحة والسكن الشعبي، وفتحت الأبواب أمام المرأة للمشاركة".

وأشار إلى أن "الطبقة العاملة العراقية احتفلت لأول مرة بعيدها الوطني في الأول من أيار 1959، بتظاهرة وطنية جامعة، شارك فيها كل أبناء الشعب، وأعادت للعامل كرامته ودوره القيادي في المجتمع".

وأوضح الصفار أن "الثورة رفعت أجور العمال بنسبة 52%، وأقرت قوانين للضمان الاجتماعي، وبنت أحياء للفقراء، وقللت الفوارق الطبقية، وحددت ساعات العمل بثمانٍ، وشرعت الحد الأدنى للأجور، وفرضت على أصحاب المعامل بناء مساكن لعمالهم، وأطلقت حرية التنظيم النقابي".

واختتم كلمته بالتشديد على أن "ثورة تموز ستبقى يومًا وطنيًا خالدًا، وواحدة من أعظم محطات النضال الشعبي في تاريخ العراق، وذاكرة لا يمكن طمسها، لأنها نبض الكرامة والعدالة في وجدان هذا الشعب".

بإجماع الحاضرين، عبّرت الفعالية عن أن روح 14 تموز لا تزال حيّة، وأن شعب العراق، الذي نهض في 1958، لن يقبل بالذل، وسينهض من جديد لإعادة بناء الوطن، واستعادة دولته المختطفة من الفاسدين والفاشلين.

عرض مقالات: