اخر الاخبار

رغم أنها تبدو في ظاهرها سلوكًا فرديًا ناتجًا عن الفقر أو الحاجة، إلا أن ظاهرة التسول في العراق تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى مشكلة مركبة، وملف شائك ومتعدد الأبعاد، يتقاطع فيه الاجتماعي مع الأمني، ويتداخل فيه الاقتصادي مع الثقافي والسياسي.

فعلى الأرصفة، وفي التقاطعات، وأمام المراكز التجارية والمستشفيات ودور العبادة، بات مشهد المتسولين مشهداً يومياً مألوفاً، غير أن ما خلف هذا المشهد من وقائع وشبكات وعوامل محركة يكشف عن أزمة أعمق بكثير من مجرّد عوز مادي.

وبهدف معالجة هذه الظاهرة والحد منها، وافق مجلس الوزراء على إطلاق حملة وطنية لمكافحة التسول، وتكليف وزارة الداخلية وجهاز الأمن الوطني العراقي بالتنسيق مع الجهات المعنية الأخرى لتنفيذ الحملة.

عوامل اقتصادية وتداعيات امنية

ويؤكد مختصون ان ظاهرة التسول في العراق اليوم باتت انعكاساً لفشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ونتاجاً لغياب العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات، وضعف أدوات الدولة في معالجة الفقر، فضلاً عن استغلال الظاهرة من قبل جماعات منظمة تتجاوز حدود السلوك الفردي لتصل إلى الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر.

ترويج للمخدرات ومناطق محمية بالنفوذ

 في جنبتها الامنية، حذر الخبير الأمني صفاء الأعسم من خطورة ظاهرة التسول في العراق، معتبراً أنها لم تعد مجرد سلوك غير حضاري، بل تحوّلت إلى ملف أمني معقد يشكّل تهديدًا مباشرًا للاستقرار المجتمعي.

واوضح لـ"طريق الشعب"، إن “التسول في العراق اليوم بات نشاطاً منظماً تقوده عصابات متخصصة، بعضها يوزع المواد المخدرة، بما في ذلك الحشيشة والكوكايين والكبتاغون، مستغلّة المتسولين كغطاء لترويج هذه السموم”، مشيراً إلى أن “الاتفاقات بين المروجين والتجار تتم أحياناً من خلال هؤلاء المتسولين”.

وأكد الأعسم أن هذه العصابات تمتلك نفوذاً واسعاً، وتسيطر على مناطق معينة تمنع فيها أي جهة أخرى من الاقتراب أو المنافسة، وهو ما يدل على امتلاكها للسلاح وعلاقات قوية تحميها من المحاسبة.

وأضاف ان "المتسولين في الشوارع لا يملكون أوراقاً ثبوتية، وبعضهم مطلوب للقضاء أو على ارتباط بجهات مشبوهة، وهو ما يمنحهم نوعًا من الحصانة غير المباشرة".

وكشف الأعسم عن شبكة تضم اكثر من 15 متسولاً تدر أرباحاً يومية قد تتجاوز 10 ملايين دينار، ما يعادل أكثر من 3 مليارات دينار سنوياً، مؤكداً أن “الأرقام صادمة، وهذه شبكة واحدة من بين العديد، وأن هذه الشبكات تملك فروعا منتشرة في عدة محافظات، وتعمل تحت حماية جهات متنفذة مقابل مبالغ مالية أو تسهيلات لوجستية”.

وأشار إلى أن هذه الشبكات "لا تقتصر على التسول وترويج المخدرات، بل تتورط أيضاً في جرائم أكبر مثل الاتجار بالأعضاء البشرية واختطاف الأطفال، مؤكدًا أن “كل حالة اختطاف طفل تقريبًا تصب في مصلحة تلك العصابات، التي تعتبر المتسولين الواجهة الأولى لأنشطتها”.

ورحّب الأعسم بتصريح وزير الداخلية بشأن إنهاء ظاهرة التسول في عام 2025، معتبراً أن الأمر قابل للتحقيق إذا توفرت الأوامر الصارمة والدعم السياسي الكامل.

وأتم الخبير الأمني حديثه بالاشارة الى ان "هذه الشبكات تعمل كمنظمات متكاملة، لديها أماكن سكن جماعية، ونظام داخلي موحد، يشمل توزيع الرواتب والطعام، ما يجعل من الصعب تفكيكها دون جهد أمني منسق ومستمر”.

المعالجة تبدأ من جذور الأزمة

وفي الجانب الاجتماعي لهذه الظاهرة، أكد الباحث الاجتماعي نشوان محمد أن ظاهرة التسول في العراق لا يمكن معالجتها بشكل جذري من خلال حملات أمنية فقط، بل تتطلب معالجة شاملة تمتد إلى الجذور الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تغذي هذه الظاهرة.

وقال محمد في حديث لـ"طريق الشعب"، ان "تكليف القوات الأمنية بجمع المتسولين من الشوارع والتقاطعات خطوة ضرورية، لكنها تبقى حلاً مؤقتاً وليست المعالجة الحقيقية”، مشدداً على أن “التسول هو في جوهره ظاهرة اجتماعية، وله أسباب عميقة مرتبطة بالبنية الاقتصادية، وأخرى تعود إلى الثقافة المجتمعية”.

وأوضح أن الفقر يشكل السبب الرئيس لانتشار التسول، نتيجة الأزمات الاقتصادية، وغياب العدالة الاجتماعية، وتنامي الفوارق بين طبقات المجتمع، خصوصًا في ظل تراجع دور الطبقة الوسطى.

واضاف ان "الواقع يشير الى وجود طبقة فقيرة جداً لا تجد أمامها خيارات كثيرة، فيلجأ أفراد منها إلى التسول في التقاطعات، أو أمام المراكز التجارية، ودور العبادة، والمستشفيات، بل وحتى منازل الأحياء الراقية".

ونوه الباحث الى أن “العامل الاقتصادي ليس الوحيد في هذه الظاهرة، فهناك أيضاً أسباب ثقافية واجتماعية تلعب دوراً مهماً. فبعض العوائل، رغم فقرها المدقع، ترفض التسول بشكل قاطع، حتى لو عانت الجوع، وهو ما يعكس منظومة القيم المتجذرة في بعض البيئات العراقية”.

ودعا محمد إلى تعزيز الوعي الاجتماعي ومقاومة ثقافة التسول، خصوصًا ما يتعلق باستغلال النساء والأطفال في هذه الظاهرة، المرفوضة اجتماعيا.

وخلص الى القول: “يجب أن نوجّه رسائل توعوية واضحة للمجتمع، فالكثير من المتسولين لا يفعلون ذلك بدافع الحاجة الحقيقية، بل بدافع الطمع أو بدوافع مرضية، وهذا يتطلب مقاربة مجتمعية إلى جانب المعالجة الأمنية”.

غياب العدالة الاجتماعية

 الى ذلك، أكد الخبير في الشأن الاقتصادي صالح الهماشي أن ظاهرة التسول المتفشية في المدن تمثل انعكاساً مباشراً لفشل السياسات الاقتصادية خلال العقدين الأخيرين، محذراً من أن المعالجات الأمنية وحدها لن تكون كافية دون إصلاح جذري للمنظومة الاقتصادية في البلاد.

وقال الهماشي في حديث مع "طريق الشعب"، ان "التسول لم يعد سلوكاً فردياً عابراً، وانما أصبح نتيجة منطقية لانعدام العدالة في توزيع الثروات، وتآكل الطبقة الوسطى، وغياب أي دور حقيقي للدولة في توفير شبكات الحماية الاجتماعية للفئات الهشة والفقيرة”.

وأشار إلى أن الانكماش الاقتصادي، وارتفاع نسب البطالة، وتضخم السوق غير الرسمية، كلها عوامل ساهمت في دفع عشرات الآلاف إلى الهامش، لافتاً إلى أن “الكثير من المتسولين هم ضحايا ظروف قسرية أُجبروا على التسول في ظل انعدام فرص العمل وانهيار منظومة الرعاية”.

وأوضح الهماشي، أن الأزمة "لا تقتصر على الفقر بوصفه رقما إحصائياً، بل تشمل غياب التنمية المستدامة، وضعف الخطط الحكومية في تمكين الفئات الأكثر احتياجًا، خصوصًا في المناطق الطرفية، والتي غالباً ما تكون الحاضنة الأساسية لانتشار التسول".

وأضاف ان "تراجع دور الدولة الإنتاجي، وترك السوق للعشوائية، وسوء التخطيط المالي، كل ذلك أنتج فجوة طبقية كبيرة بين الأغنياء والفقراء، في ظل عجز الدولة عن ضمان الحد الأدنى من الدخل أو الخدمات، ما يدفع البعض إلى التسول كخيار قسري أو منهجي”.

ودعا الهماشي إلى “إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وتفعيل أدوات الحماية الاجتماعية بشكل صحيح، وتوفير فرص عمل حقيقية للعاطلين والفقراء، لا الاكتفاء فقط بمنح اعانات اجتماعية، إذا ما أرادت الدولة القضاء على التسول بوصفه مظهراً من مظاهر الانهيار الاقتصادي قبل أن يكون مسألة سلوكية أو جنائية”.

عرض مقالات: