في كل موسم انتخابي جديد في العراق، تتكرّر مشاهد استغلال النفوذ والمال العام، وسط غياب قوانين وإجراءات حازمة وضعف أدوات الرقابة؛ فلا تكافؤ في الفرص بين المرشحين المستقلين ومرشحي الأحزاب النافذة، ولا ضمانات حقيقية لنزاهة السباق الانتخابي.
أدوات انتخابية
المال السياسي، المناصب الحكومية، المشاريع الخدمية، وحتى رواتب الرعاية الاجتماعية، تتحوّل إلى أدوات انتخابية بيد الأطراف المتنفذة، بينما تغيب الكفاءة وتتراجع ثقة المواطنين بالعملية الانتخابية. وعلى الرغم من التصريحات الرسمية المتكررة بشأن محاربة الفساد الانتخابي، إلا أن الواقع يُظهر بنية انتخابية هشّة تتكرّس فيها السلطة لا تتداول.
وفي هذا المشهد المتكرر المألوف يتكرس المال السياسي كأداة أساسية لتشكيل النفوذ والتأثير على نتائج الانتخابات، وفقاً لما يؤكده النائب أسامة البدري، الذي يرى أن الظاهرة لم تعد مجرد انحراف عابر، بل أصبحت جزءا راسخاً من الثقافة الانتخابية في البلاد.
ويصف البدري لـ "طريق الشعب"، ظاهرة "سلطة المال" بأنها باتت السمة الأبرز للمحطات الانتخابية المتعاقبة، مشيراً إلى أن استخدام النفوذ المالي لم يعد يقتصر على شراء الأصوات، بل تطور إلى ما يُعرف بـ "الاستثمار السياسي"، وهو، بحسب تعبيره، تحول خطير يفرغ الديمقراطية من جوهرها، ويحوّل العملية الانتخابية إلى سوق للنفوذ والمصالح.
لجان رقابية على المتجاوزين
من جانبه، أكد رئيس الفريق الإعلامي في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، عماد جميل، تشكيل لجان رقابية مركزية وفرعية لمتابعة قضية استخدام المال العام والمال السياسي في العملية الانتخابية، بالتنسيق مع الجهات الرقابية المعنية، وعلى رأسها هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية.
وقال جميل، إن "المفوضية، وبالتعاون مع القضاة ورئاسة الإدارة الانتخابية، شددت على أهمية فرض رقابة صارمة على استخدام المال أو ممتلكات الدولة في الحملات الانتخابية"، مشيراً إلى أن "المفوضية بادرت بتشكيل لجان مركزية في مكاتب المحافظات، إضافة إلى لجان فرعية بلغ عددها قرابة 1079 لجنة".
وأضاف أن "هيئة النزاهة شكلت بدورها لجاناً لمتابعة هذا الملف، كما سيكون لديوان الرقابة المالية دور فعّال في تدقيق إيرادات ومصروفات الأحزاب السياسية"، مبيناً أن "هناك قسماً خاصاً في المفوضية معنيًا بإدارة الأحزاب ومتابعة هذا الجانب".
وأكد جميل أن "المفوضية تعمل وفق القانون، وأن هذا القانون سيُطبق على الجميع دون استثناء، بهدف منع استغلال المال العام أو اللجوء لشراء البطاقات الانتخابية"، داعياً "جميع الأطراف إلى الالتزام الكامل بالقواعد والضوابط التي تحفظ نزاهة الانتخابات وعدالتها".
اختلال تكافؤ الفرص بين المرشحين
الخبير في الشأن الانتخابي، دريد توفيق، قال أن المال السياسي يُضخ بشكل غير منضبط في العملية الانتخابية في العراق، بسبب غياب التشريعات التي تضع حدودا واضحة للإنفاق المالي أثناء الحملات الانتخابية، ما يؤدي إلى اختلال تكافؤ الفرص بين المرشحين.
وقال توفيق لـ طريق الشعب"، أن "المشكلة الحقيقية تبدأ من قانون الانتخابات نفسه، سواء كان القانون رقم 4 لسنة 2023 أو القانون رقم 9 لسنة 2021، أو حتى القوانين التي سبقتهما، فجميعها لم تتضمن قيودًا صارمة على المال السياسي، ولم تضع سقفًا ماليًا واضحًا للإنفاق على الحملات الانتخابية".
وأوضح توفيق، أن غياب هذه القيود سمح بتحول الدعاية الانتخابية إلى أداة للهيمنة المالية بدلًا من كونها وسيلة لتقديم البرامج.
وأضاف "اليوم لم تعد الدعاية تقتصر على الملصقات والصور واللافتات، بل توسعت لتشمل هدايا، سفرات، ولائم، وعزائم تُستغل فيها الظروف المعيشية الصعبة للناخبين من أجل التأثير على قراراتهم".
وأشار إلى أن هذه الأساليب تنتهك مبدأ العدالة الانتخابية، وتُعزز من هيمنة أصحاب المال والنفوذ، بينما يُقصى المرشحون الذين لا يملكون موارد مالية ضخمة، حتى وإن كانوا يمتلكون كفاءة وبرنامجا نزيها.
وبيّن الخبير الانتخابي، أن تعليمات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، خصوصًا ما ورد في تعليمات رقم 5 لسنة 2023، حددت سقفا ماليا بلغ 250 دينارا لكل ناخب، لكنه وصف هذا السقف بأنه "مرتفع جدا"، ولا يضع حدا فعلياً للإفراط في استخدام المال!
فساد منظم ومحمي
فيما قال المحلل السياسي د. أحمد الحمداني إن "المال السياسي أصبح أداة خطيرة لتدمير العراق"، مؤكدا أن اغلب الكتل السياسية المتنفذة، استخدمته في تحقيق مصالحها الشخصية والحزبية الضيقة على حساب الشعب، وسط غياب تام للمحاسبة أو المساءلة القانونية".
وأوضح الحمداني لـ "طريق الشعب"، أن "العراق اليوم لا يعاني من الفاسدين فقط، بل من غياب من يحاسبهم"، مشيرا إلى أن "المال السائب يعلم على السرقة، وهذا ما حدث فعليا بعد عام 2003، حيث أصبح الفساد منظما ومحميا من أعلى الهرم السياسي".
وأكد أن "أغلب الموجودين في السلطة استباحوا المال العام من دون أن يردعهم وازع أخلاقي أو وطني، لأنهم ببساطة لا يمثلون سوى مصالح أحزابهم وعوائلهم، لا مصلحة الشعب العراقي. كل شيء صار يُوظَّف لخدمة المصالح الحزبية الضيقة والطموحات الشخصية".
تكريس للسلطة والنفوذ
وشدد الحمداني على أن المال السياسي صار وسيلة لتكريس السلطة والنفوذ، وأضاف: "ما نشهده في كل دورة انتخابية هو ضخ مئات الملايين من الدولارات من قبل الأحزاب المتنفذة، ومن أجل شراء الأصوات، وكسب الناخبين والمرشحين، دون اعتبار للعدالة أو التنافس الشريف".
وتابع: "نحن لا نتحدث عن حالات فردية، بل عن منظومة كاملة تمأسس فيها الفساد، وتحولت الدولة إلى مزرعة تُدار بعقلية الغنيمة. الميزانيات توضع وتُوزع ليس على أساس احتياجات المواطنين، بل على أساس اعتبارات سياسية".
وأردف الحمداني ان "القوانين في العراق لم تُسن لصالح المواطن، بل على مقاس المتنفذين. لا يوجد قانون يحاسب الوزير، أو المدير العام، أو رئيس الكتلة، لأن السلطة بيدهم، والقلم الأحمر بيد من يتبعهم. المواطن مغلوب على أمره".
وأضاف ان "العراق يعيش أزمة اقتصادية خانقة، وبدل أن تُوجه الثروات لحل الأزمات، تُستخدم في تضخيم أرصدة الفاسدين، وتوسيع نفوذهم. المال السياسي صار وقودا للدمار، لا للبناء".
واختتم بالقول: "العراق اليوم بحاجة إلى من يمتلك الجرأة ليقول للفاسد: كف عن السرقة. بحاجة إلى قيادات جديدة، تحترم كرامة الإنسان، وتعيد بناء الدولة على أساس المواطنة والعدالة. أما ما نشهده الآن، فهو تفكك كامل، وغياب لأي حلول جذرية تنقذ هذا البلد".
الحلول الانية
وفي الختام، لا بد من التأكيد أن المشاركة في الانتخابات لم تعد مجرّد حق دستوري فحسب، بل تحوّلت إلى واجب وطني وأداة فعلية لمعاقبة الفاسدين واستعادة القرار الشعبي من أيدي القوى التي عبثت بمصير البلد طيلة الدورة التشريعية الحالية وما سبقها. إن ترك صناديق الاقتراع فارغة لا يُسقط الفاسدين، بل يُمنحهم تفويضاً جديداً للاستمرار في فسادهم، بينما يبقى الصوت الانتخابي النزيه هو السبيل الوحيد لكسر هذه الحلقة المفرغة وصناعة التغيير الحقيقي.