اخر الاخبار

في مواجهة التحديات المالية المتصاعدة وتراجع الإيرادات غير النفطية، أقرت الحكومة مؤخرًا حزمة من القرارات الإدارية والضريبية، وصفت بأنها تهدف إلى تعظيم الإيرادات العامة ومعالجة الاختلالات البنيوية في الجهازين المالي والإداري.

لكن مراقبين وخبراء اقتصاديين يرون أن هذه الإجراءات، التي شملت استقطاعات جديدة وتعديلات في الرواتب وبعض مظاهر الإنفاق، تعكس في جوهرها استجابة اضطرارية لأزمة نقدية تلوح في الأفق، لا مشروع إصلاح مؤسسي حقيقي.

فبينما تؤكد الحكومة أنها ماضية في خطوات إصلاحية لضبط المالية العامة وتقليل الهدر، يشكك مختصون في جدوى هذه السياسات، التي وصفوها بـ”الترقيعية والمؤقتة”، محذرين من أنها قد تؤدي إلى انكماش اقتصادي أوسع إذا لم تُرفق بإرادة سياسية لمعالجة الخلل البنيوي وتبني إصلاحات عميقة وعادلة

حزمة قرارات حكومية جديدة

وأقر مجلس الوزراء، اخيراً، حزمة من القرارات الجديدة التي تهدف بحسب المعلن إلى تعظيم الإيرادات العامة ومعالجة الاختلالات في الجهازين المالي والإداري، وذلك في إطار مساعيه الرامية إلى احتواء الضغوط الاقتصادية المتزايدة وتطوير كفاءة الإنفاق العام.

وتضمنت الحزمة إلزام الشركات النفطية الحكومية باستقطاع نسبة 7 في المائة من مستحقات عقود المقاولين الثانويين في جولات التراخيص، مع قيام وزارة النفط بإرسال البيانات الخاصة بتلك الاستقطاعات إلى الهيئة العامة للضرائب، إلى جانب إخضاع الأرباح المتحققة من فروقات العقود الاستثمارية، وعقود التنازل أو البيع بين المستثمرين، للتقديرات الضريبية وفقاً للأصول القانونية.

كما قرر المجلس فرض ضرائب على العوائد المالية الناتجة عن إيجار الوحدات السكنية من شقق ودور، وشدد على إلزام جميع التشكيلات الحكومية بتحويل الاستقطاعات الضريبية الناتجة عن عقود المقاولات والتعهدات والإيجارات إلى الهيئة العامة للضرائب. وشملت القرارات كذلك توجيه وزارة الخارجية بالتنسيق مع الجهات المالكة للعقارات العراقية في الخارج من أجل استثمارها أو بيع الفائض منها، فيما تم تكليف وزارة المالية توحيد رواتب المديرين العامين ومن هم بدرجتهم، والعاملين ضمن الرئاسات الثلاث، لتصبح مساوية لرواتب نظرائهم في الوزارات والهيئات الأخرى.

وألزم مجلس الوزراء الرئاسات الثلاث بتطبيق قراره المرقم 333 لسنة 2015، المعدّل بالقرار 277 لسنة 2016، بشأن تقنين الامتيازات المالية، في محاولة لضبط الإنفاق الحكومي والحد من الفوارق في الرواتب والمخصصات.

وكان المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، قال إن العراق يعمل على بناء قاعدة إيرادات مستدامة بعيداً عن تقلبات أسعار النفط، من خلال إصلاحات مالية واقتصادية جوهرية تستهدف زيادة الإيرادات غير النفطية وتحقيق الاستقرار المالي.

وأشار إلى أن الاستقرار الداخلي يمهّد الطريق لجذب الاستثمار وتحقيق التنمية، بدليل تحسن التصنيف الائتماني للعراق وإطلاق مشاريع كبرى كانت متوقفة. وأضاف أن الحكومة شرعت في إصلاحات متعددة تشمل: أتمتة الجباية وتوسيع القاعدة الضريبية؛ رفع كفاءة تحصيل الرسوم الحكومية وتفعيل الدفع الإلكتروني؛ تحديث المنافذ الجمركية ومحاربة التهريب؛ إصلاح الشركات العامة وتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص؛ استثمار الأصول العامة غير المستغلة؛ وتحسين إيرادات قطاع الاتصالات وتفعيل أدوات التمويل المحلي.

وأكد صالح أن هذه الإجراءات تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط، ودعم خطط النمو الاقتصادي، وتمكين العراق من التحول إلى اقتصاد متنوع ومستقر في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.

إجراءات لتسكين الألم مؤقتاً

وفي هذا الصدد، أكد أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي، أن الحزمة الأخيرة من القرارات الصادرة عن الحكومة، والتي تمس الجهازين الإداري والمالي، لا ترقى إلى مستوى مشروع إصلاح مؤسسي مدروس، بل تأتي كرد فعل مباشر على ضغوط مالية متزايدة، في محاولة لتفادي أزمة نقدية تلوح في الأفق نتيجة تراجع الإيرادات غير النفطية وارتفاع فاتورة الرواتب والالتزامات التشغيلية.

وأضاف السعدي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن هذه الإجراءات، رغم تقديمها تحت لافتة “الإصلاحات”، إلا أنها "تميل إلى كونها خطوات تقشفية تنفذ بشكل مستعجل، دون أن تستند إلى إطار استراتيجي متكامل، الأمر الذي يفقدها التأثير المستدام المطلوب لمعالجة الخلل المالي البنيوي".

وأشار إلى أن من أبرز الإخفاقات في هذه الحزمة، عدم معالجة التفاوت الكبير في الرواتب بين مؤسسات الدولة ووزاراتها، وهو ما اعتبره أحد أبرز مظاهر التشوه في الهيكل المالي. وقال: "لا يُعقل أن يتقاضى موظف في مؤسسة ما ضعف راتب نظيره في وزارة أخرى رغم تساوي المؤهلات وسنوات الخدمة، فمثل هذا التفاوت لا يكرس فقط شعوراً بالغبن، بل يضعف إنتاجية الجهاز الإداري ويغذي الفساد".

وأضاف السعدي، أن مظاهر الأزمة المالية "باتت تنعكس بوضوح، إذ يواجه المواطنون والتجار تأخيرات في التمويل الحكومي وشحاً في الإنفاق، ما يدل على أزمة ثقة وغياب إصلاح مالي فعلي".

"وبينما تحاول الحكومة تخفيف الضغط على الخزينة عبر مراجعة العقود وتقليص المصاريف وربما تأجيل التعيينات، فإنها لم تقترب بعد من جوهر الإصلاح المطلوب، والمتمثل في إعادة هيكلة الرواتب، وتحسين التحصيل الضريبي، وضبط الإنفاق غير المنتج، وتحفيز القطاعات غير النفطية" يقول السعدي.

وزاد أستاذ الاقتصاد الدولي حديثه بالقول: إن ما تقوم به الحكومة قد يسهم في “تسكين الألم” مؤقتاً، لكنه لن يعالج أصل المرض، محذرًا من أن استمرار هذه الإجراءات دون إصلاحات عميقة قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة المالية، مشيرا الى ان البدائل متوفرة، لكنها تتطلب شجاعة سياسية وإرادة حقيقية.

واشار إلى ان أبرز تلك البدائل "تتمثل بتوحيد سلم الرواتب على أسس عادلة ومنصفة، وتفعيل الضرائب غير النفطية، لا سيما على أصحاب الدخول العالية والأنشطة التجارية الكبرى، اضافة لإصلاح نظام الدعم وتحويله إلى دعم نقدي مباشر للفئات المستحقة، علاوة على تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص لتوفير فرص العمل خارج الجهاز الحكومي، إطلاق مشاريع استثمارية حقيقية تسهم في زيادة الإيرادات الداخلية وتقليل الاعتماد على النفط".

حلول ترقيعية لن تصمد طويلاً

من جهته، أكّد الخبير الاقتصادي صالح الهماشي أن ما يجري اليوم من إجراءات حكومية متفرقة في الجانب المالي لا يحمل ملامح مشروع إصلاحي حقيقي، بقدر ما يعكس ارتباكاً في إدارة الموارد وعدم فهم كيفية التعامل مع التحديات.

وقال الهماشي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن الدولة ما زالت تسلك الطريق الأسهل في مواجهة الضغوط المالية، عبر الضغط على النفقات التشغيلية ومحاولة كبح بعض بنود الإنفاق، دون أن تتجرأ على فتح الملفات الجوهرية التي تشكّل أصل الخلل، وعلى رأسها: فلسفة إعداد الموازنة، وغياب العدالة في التخصيصات، والجمود الذي يقيّد الإيرادات غير النفطية وملف تنويع الموارد الاقتصادية.

وأضاف، ان "الدولة تتعامل مع أزمتها كأنها دفتر حسابات يعاني من عجز، وليست كمنظومة اقتصادية تتطلب إعادة بناء"، مشيراً إلى أن أي خطوة "تتخذ خارج هذا الإدراك ستبقى محدودة الأثر، إن لم تكن عبئاً جديداً بحد ذاتها".

وبيّن الهماشي، أن البلاد دخلت بالفعل في "حلقة مفرغة، حيث تؤدي الأزمة المالية إلى إجراءات تقشف، تُفضي بدورها إلى مزيد من التراجع في الدورة الاقتصادية، خصوصاً مع انكماش الطلب العام، وشح السيولة لدى الأسواق، ما يؤثر حتى على قطاعات غير مرتبطة مباشرة بالموازنة".

ونبه الى أن “المالية العامة أصبحت أسيرة لمعادلة خطرة: اعتماد شبه كلي على النفط، مقابل كتلة إنفاق ثابتة تتزايد سنوياً دون رقابة فاعلة أو كفاءة في التوزيع”، مؤكداً أن هذا الاختلال البنيوي لن يُعالج بسياسات تقشف انتقائية. وهنا نحن بحاجة الى إصلاحات جذرية وحقيقية.

ورأى الهماشي أن الأزمة الحقيقية تكمن في غياب العدالة في توزيع الموارد، اضافة للفوضى التنظيمية وغياب التخطيط المالي الرشيد. وما لم يُعالج هذا الخلل بشكل منهجي، فإن أي خطوة مالية ستظل سطحية وغير مؤثرة.

كما حذر من أن "استمرار السياسات الحالية دون مراجعة جدية قد يفاقم أزمة الثقة بين الدولة والمجتمع، ويؤدي إلى انكماش اقتصادي حاد، لاسيما في ظل تقشف غير معلن يطال قطاعات حيوية ويؤثر سلبًا على حركة السوق".

ودعا الهماشي إلى ما سماه “مصارحة اقتصادية”، تشترك فيها الحكومة والخبراء وممثلو القطاعات الإنتاجية، تُفضي إلى خارطة طريق جديدة تعيد هيكلة الموازنة، وتعزز الإيرادات غير النفطية، وتُعيد النظر في أولويات الإنفاق.

وخلص الى القول: ان "العراق لا يفتقر إلى الموارد، بقدر ما يعاني من ضعف الإدارة وسوء التوزيع. وأي إصلاح لا ينطلق من هذه الحقيقة سيبقى سطحياً ومؤقتاً".

عرض مقالات: