لم تكن الاشتباكات التي شهدتها مديرية زراعة الكرخ في منطقة الدورة، أمس الاول، حدثاً عابراً أو معزولاً، بل كشفت مجدداً عن عمق الأزمة التي تواجه الدولة، وسط تصاعد الحديث عن "ثنائية الدولة واللادولة"، وتضارب الصلاحيات، واستمرار هيمنة السلاح المنفلت على المشهدين السياسي والأمني، فيما تثار أسئلة أخرى نقول لماذا أصلا هذه الاشتباكات في دائرة الزراعة وماذا تدر على المتحاصصين؟
واندلع، صباح الأحد، اشتباك مسلح بين قوة من الشرطة الاتحادية ومجموعة تابعة لأحد ألوية الحشد الشعبي، داخل مبنى مديرية زراعة الكرخ، أسفر عن مقتل أحد منتسبي الشرطة، وسط صدمة شعبية وردود فعل سياسية غاضبة.
وأعلنت قيادة الشرطة الاتحادية استشهاد المفوض "غزوان كريم سلمان الربيعي"، مؤكدة التزامها "بسيادة القانون وهيبة الدولة"، فيما أعلنت قيادة العمليات المشتركة إلقاء القبض على 14 مسلحاً ينتمون إلى اللواءين (45 و46) التابعين للحشد الشعبي، وبدء إجراءات قانونية بحقهم.
وعلى أثر ذلك، ترأس رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، بصفته القائد العام للقوات المسلحة، اجتماعاً طارئاً فور وقوع الحادث، وأصدر توجيهات صارمة بـ"عدم التهاون في تطبيق القانون"، ورفض "أي جهة تعمل خارج سلطة الدولة"، مؤكداً أن "هيبة الدولة خط أحمر".
كما وجّه بتشكيل لجنة تحقيقية عليا لكشف الملابسات الكاملة للحادث، والتعامل معه كتهديد مباشر لبنية الدولة ومؤسساتها.
في المقابل، عقد الإطار التنسيقي اجتماعاً طارئاً أيضاً وأصدر بياناً دان فيه "الاعتداء على إحدى مديريات الزراعة"، واعتبره "خروجاً عن القانون"، مؤكداً دعمه للإجراءات الحكومية والقضائية، ومطالباً بتحقيق شفاف.
إلا أن مراقبين رأوا أن الإطار اكتفى بإدانة شكلية، دون التطرق العميق إلى مسؤولية بعض الفصائل التابعة له أو المحسوبة عليه او دعوة لمعالجة دوافع ما حصل، وهو ما أثار تساؤلات حول جدية التزامه بسيادة الدولة.
مواقف مختلفة
وأصدرت وزارة الزراعة بياناً نفت فيه أي علاقة لها بمديرية زراعة الكرخ، مؤكدة أن الأخيرة تتبع محافظة بغداد منذ نقل الصلاحيات في عام 2016، وهو ما يشير إلى أن الصراع على منصب المدير يأتي ضمن أجواء سياسية ومحلية متوترة، خصوصاً بعد تغيير المحافظ مؤخراً.
فيما سارعت هيئة الحشد الشعبي، من جانبها، إلى إصدار بيان أكدت فيه التزامها التام بتوجيهات القائد العام، وشددت على أنها "لن تتساهل مع أي فرد يخالف الأوامر أو يخرق السياقات الأمنية"، واعتبرت أن الحشد يعمل "تحت مظلة الدولة وقيادتها الشرعية".
فيما علق رئيس كتلة حقوق النيابية التابعة لـ"كتائب حزب الله"، على الاشتباكات، قائلاً إنه "من غير المقبول الوقوع في خطأ الاشتباك ما بين نيران صديقة".
وقال مؤنس في تدوينة، إن "الحادث المؤسف الذي حصل في بغداد، مُدان بكل معنى الكلمة، حيث من غير المقبول الوقوع في خطأ الاشتباك ما بين نيران صديقة، وهو ما يدفع إلى ترصين العمل الأمني أكثر وتوسعة دائرة التنسيق بين القطعات والتشكيلات".
ودعا مؤنس، إلى "عدم فسح المجال للمتصيدين بالماء العكر، الذين يستغلون البيانات الرسمية، التي تصدر عادة باستعجال يسبق التحقيقات الأصولية".
تهديد الدولة من الداخل
وفي هذا الصدد حذر الخبير الأمني والاستراتيجي سيف رعد من خطورة بقاء السلاح خارج إطار الدولة، مؤكداً أن العراق يواجه ثنائية خطيرة في ملف الأمن، تتمثل في “الدولة مقابل اللادولة”، إلى جانب تناقض صارخ بين “شعارات المقاومة” من جهة، و”المشاركة في العملية السياسية” من جهة أخرى.
وقال رعد في حديث "لـ"طريق الشعب"، إن “بعض الفصائل ممن يمتلكون أذرعاً سياسية ومناصب ونفوذاً حكومياً، يعتبرون أن السلاح هو الضامن لبقائهم في السلطة، ويستخدمون شعارات المقاومة كغطاء لهذا الوجود”، مشيراً إلى أن “العراق يدفع ثمن هذه الشعارات منذ أكثر من عقد، سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي أو العسكري”.
وأضاف أن “مستقبل العراق يجب أن يُبنى على أسس الدولة والدستور والقضاء والمؤسسات، فهي الضامن الحقيقي للاستقرار”، لافتاً إلى أن "تجربة السلاح خارج الدولة أثبتت فشلها".
وختم تصريحه بالقول: “على القوى السياسية أن تدرك أن الحفاظ على النظام الديمقراطي لا يمكن أن يستمر بالشعارات. الدولة تُبنى بالعلم والتكنولوجيا والقرار السيادي".
مستقبل الأمن على المحك
أما الخبير صفاء الأعسم، فأكد أن السيادة والأمن في العراق لا يمكن ضمانهما إلا من خلال حصر السلاح بيد الدولة.
وقال الأعسم في حديث لـ "طريق الشعب"، إن “أي جهة مسلحة لا ترتبط بمنظومة الدولة ولا تلتزم بأوامر القائد العام للقوات المسلحة، لا يحق لها استخدام السلاح، وتُعد خارجة عن القانون”، مضيفاً ان “العراق بحاجة إلى منظومة أمنية موحدة، ولا يمكن القبول بتعدد مصادر القرار العسكري أو الأمني”.
وأضاف الأعسم أن “بعض الفصائل تمتلك نفوذاً سياسياً داخل مؤسسات الدولة، لكن هذا لا يُبرر أي سلوك مسلح خارج الإطار الرسمي”، مشيرا الى أن “مستقبل الأمن في العراق مرهون بالتزام الجميع، بأوامر الدولة، وأي تصرف فردي أو استخدام للسلاح خارج هذا الإطار سيجرّ تداعيات خطيرة، ويتحمل من قام به مسؤوليتها الكاملة أمام القانون والدولة”.
مظاهر الفوضى المسلحة
الى ذلك، أكد عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، محمد الشمري، أن بناء دولة حقيقية يتطلب حصر السلاح بيد الدولة، مشددًا على ضرورة إنهاء مظاهر الفوضى المسلحة التي تفاقمت بعد عام 2003.
وقال الشمري إن "السلاح المنتشر اليوم بين بعض الأفراد والجماعات لا يُستخدم دائمًا في مواضعه الصحيحة، بل يُوظف أحيانًا لفرض السيطرة والنفوذ على مناطق معينة"، مشيرًا إلى أن "هذا السلاح يجب أن يُسلَّم إلى الدولة لتكون هي الجهة الوحيدة المخولة باستخدامه والتحكم فيه".
وأوضح أن "ما شهده العراق بعد سقوط النظام السابق أدى إلى انتشار واسع للأسلحة، وأصبحت متاحة لمن هب ودب، ما تسبب في فوضى أمنية مستمرة"، مؤكدًا أن "هذا الوضع مرفوض كليًا ويتنافى مع مقومات الدولة الحضارية والقانونية".
ودعا الشمري إلى "بناء نظام سليم قائم على سيادة القانون والمؤسسات"، مشددًا على أن "حصر السلاح بيد الدولة هو الخطوة الأولى نحو استقرار البلاد وارتقائها نحو واقع أفضل".
الدولة أمام مفترق
ان ما حصل من اقتحام لمديرية الزراعة، وكذلك استمرار هجمات المسيرات على حقول النفط في كردستان، وغيرها من حوادث تقف خلفها قوى مسلحة، يثير القلق من استخدام السلاح لتحقيق مآرب واهداف ضيّقة لهذه المجموعة أو تلك، وخاصة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية. كما أن ذلك يكشف هشاشة البناء المؤسسي للدولة، لذا لا بد من التأكيد على أهمية وضرورة الحصر الفعلي للسلاح بيد مؤسسات الدولة الدستورية وتوحيد القرار العسكري والأمني، فاستمرار السلاح المنفلت يجعل توظيفه في تحقيق مكاسب سياسية، أمرا سهلا، ويخلق دويلات داخل الدولة.