في مشهد بات يتكرر بصورة مقلقة، أصبحت قضايا النشر والإعلام في العراق تتحوّل تدريجياً من أداة قانونية للمساءلة والتنظيم، الى ساحة صراع سياسي بحت. حيث تُستثمر كسلاح للانتقام من أصحاب الرأي والصحفيين والمؤثرين.
ولا تقتصر الملاحقة على مواطنين عاديين، انما تشمل مؤثرين إعلامياً وناشطين يسعون لممارسة حقهم في النقد والمساءلة. وتكشف الوقائع أن هناك ازدواجية صارخة في التعامل مع القانون: فالمسؤولون وذوو النفوذ يحظون بحصانة وموارد تمكنهم من استخدام القضاء ضد خصومهم، بينما تُسوف أو تُغلق شكاوى المواطنين البسطاء، ما دفع المراقبين للتحذير من منحى خطير يكون فيه القانون أداة للضغط السياسي وتكميم الأفواه.
وفي هذا السياق، دعا عدد كبير من صناع الرأي، السلطة القضائية لوضع آليات واضحة تمنع استخدام القوانين لأهداف سياسية، وتحمي حرية التعبير والرأي، بما يضمن أن يبقى القضاء حصناً للنزاهة وليس أداة لتصفية الحسابات.
مسار خطير
يقول الأكاديمي محمد نعناع، إنه يواجه دعوى قضائية رفعها ضده النائب مصطفى سند، مؤكداً عزمه الدفاع عن نفسه امام القضاء، داعيا في سلسلة منشورات الرأي العام للوقوف والتضامن معه.
وأوضح نعناع، أنه سبق أن تقدم بشكوى ضد النائب نفسه لكنها لم تُحرَّك، بسبب تمتعه بالحصانة، مضيفاً انه "بما أنه بادر إلى تحريك دعوى قضائية ضدي، فقد لجأت بدوري إلى تفعيل الشكوى السابقة ضده أمام القضاء".
وأشار في حديث مع "طريق الشعب"، إلى أن قضايا الإعلام والنشر تحولت اليوم إلى أداة سياسية بحتة، بعدما صار القضاء يقبل دعاوى حتى على تعليقات بسيطة أو منشورات لا تتضمن أسماء، وهو ما جعلها وسيلة للتنكيل بأصحاب الرأي والمؤثرين إعلامياً ممن يختلفون مع السلطة أو مع بعض النواب والمسؤولين.
وبيّن نعناع أن "المواطن البسيط، أو حتى مجموعة من المتضررين، إذا أرادوا تقديم شكوى ضد نائب أو وزير أو مسؤول، فإن شكاواهم لا تتحرك وغالباً ما تُسوف أو تُغلق، بينما إذا قدم المسؤول نفسه شكوى ضدهم فإنها تتحرك بسرعة وتصدر بموجبها أحكام بالغرامات أو الحبس مع وقف التنفيذ، وأحياناً تُنفذ أحكام بالسجن لمدد قصيرة ثم يُصار إلى التنازل لاحقاً".
وتابع قائلاً انه "بهذا الشكل أصبحت القضايا تُستغل لتكميم الأفواه، وترافقها قسوة وتشديد غير مبررين. ونحن لا نتهم القضاء، لكننا نشكو من النفوذ السياسي المؤثر في مسار هذه القضايا".
وتمنى على إلى رئاسة مجلس القضاء الأعلى "الانتباه إلى خطورة هذا المسار، وألا تتحول هذه القضايا إلى أداة للنيل من أصحاب الرأي والمؤثرين إعلامياً بدوافع سياسية"، مؤكداً أن المطلوب "هو ضمان أن تكون المحاكم للفصل العادل لا لتصفية الحسابات".
وشدد على الحاجة إلى "تعزيز الوعي بخطورة استخدام القانون كوسيلة لكبت الحريات، وإلى دور فاعل من المنظمات الحقوقية لمتابعة هذه الملفات"، مبيناً أن "بعض الأطراف تسعى إلى تضخيم تعليقات بسيطة أو منشورات عادية وتكييفها على أنها إساءة أو تشهير، بينما الواقع مختلف تماماً".
وختم نعناع بالقول: "المفروض أن يكون القضاء الحصن الحصين للدولة والمجتمع. و ما يحصل اليوم من استغلال سياسي لهذه القضايا يُسيء إلى سمعته. نحن بدورنا نرفض أن تُلصق به هذه الشوائب، ونريد ان يبقى القضاء نزيهاً ومحترماً وبعيداً عن مهاترات السياسيين، وان يبقى الفيصل العادل في مثل هذه القضايا، لأنه إن لم يكن كذلك فلن ينصف أحداً".
عصا القانون
من جانبه، قال الحقوقي زين العابدين البصري إن استغلال الرأي العام للتنكيل بالخصوم السياسيين أصبح ظاهرة متكررة، حيث تقوم بعض الأطراف بتوظيف حالة الاستقطاب السياسي الحاد ضد معارضيها.
وأضاف في حديث لـ"طريق الشعب"، انه "على سبيل المثال، هناك أصوات شبابية تنتقد الأداء السياسي وتعارض الفئة المهيمنة على السلطة، لكن الأخيرة تحاول شيطنة هذه الانتقادات وتحويلها إلى صراع بين أقطاب متنافسة، قبل أن تنزلق الأمور إلى مربع خطير يتمثل في تشويه السمعة واستهداف الأشخاص في حياتهم الخاصة وأعراضهم وحرياتهم".
وأشار البصري إلى أن الأمر الأكثر خطورة "يتمثل في تعامل بعض النواب وممثلي السلطة التنفيذية مع النقد والصحافة وصنّاع الرأي العام بـ”العصا القانونية”، أي استخدام القانون كأداة ترهيب".
وتابع قائلاً: "ليس من المعقول أن يواجه ناشط أو صحفي دعوى قضائية لمجرد أنه وجه نقداً شديداً أو استخدم وصفاً قاسياً بحق مسؤول. حين يمتلك المسؤول سلطة ونفوذاً وحصانة وموارد وعلاقات، ويستثمرها لملاحقة مواطن أعزل، فإن المعادلة تصبح خطيرة، لأنها تضعف حرية التعبير وتقوّض مبدأ تكافؤ الفرص بين السلطة والمواطن".
وأضاف البصري أنه لا يمكن "تحميل القضاء وحده المسؤولية كاملة، كونه قضاءً إجرائياً غير اجتهادي لا يستطيع الخروج عن النصوص القانونية"، مشيراً إلى أن المشكلة الحقيقية "تكمن في غياب تشريعات عصرية تتوافق مع متطلبات النظام الديمقراطي".
وبيّن أن الفجوة بين الممارسات الديمقراطية وآليات عمل المؤسسات هي فجوة تشريعية بالدرجة الأولى.
وشدد في ختام حديثه على أن البرلمان، "الذي يفترض أن يشرّع قوانين تحمي حرية التعبير وتكفل ممارسة الرأي، يفرز للأسف طبقة سياسية غير مبالية بالقضايا الجوهرية، ما يؤدي إلى صدور مشاريع قوانين هشة لا ترتقي إلى بناء نظام ديمقراطي رصين يحترم الشعب ويحمي حقوقه".
القضاء ركيزة أساسية لضمان العدالة
من جانبه، أكد الخبير القانوني واثق الزبر أن الدستور العراقي والقانون يكفلان حق أي مواطن، دون استثناء، في إقامة الشكاوى والدعاوى ضد أي شخص، حتى لو كان رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس مجلس النواب، إضافة إلى وظيفته. هذا الحق متاح لجميع العراقيين بغض النظر عن مستواهم التعليمي أو وضعهم المادي والاجتماعي.
وأشار في حديثه مع "طريق الشعب"، إلى أن ما يُلاحَظ اليوم هو "إساءة استخدام هذا الحق من خلال دعاوى كيدية ضد الشخصيات الوطنية والاعلاميين وصنّاع الرأي العام، الذين يقتصر دورهم على النقد والمساءلة بشأن الأداء السياسي والقرارات العامة، دون أن يمسوا الحياة الشخصية للسياسيين أو ذويهم".
وأوضح أن تفسير حرية الرأي على أنها تهديد للنظام السياسي أو أداة للإطاحة به أمر خاطئ.
وطالب الزبر رئيس مجلس القضاء الأعلى بوضع آلية واضحة لتقنين الشكاوى والدعاوى، بما يضمن عدم استخدامها ضد الأصوات الحرة والوطنية".
ودعا الى " البت سريعا في الشكاوى الكيدية وغير المجدية وغلقها، و التمييز بين النقد السياسي المشروع والتشهير أو الإساءة الشخصية، اضافة لحماية الإعلاميين والوطنيين المعروفين بدفاعهم عن حقوق الشعب من أي تضييق قضائي".
ولفت الزبر إلى أن "استغلال بعض السياسيين لنفوذهم وحصانتهم وموارد الدولة في تحريك مثل هذه القضايا ليس مجرد إساءة استخدام للسلطة، بل يشكل أيضاً هدراً للمال العام، لأن موارد الدولة مُخصصة لخدمة المواطنين لا لملاحقة المعارضين أو الناشطين".
وأكد، أن القضاء العراقي "يظل ركيزة أساسية لضمان العدالة"، مشيراً إلى أن الفجوة الحقيقية تكمن في غياب تشريعات حديثة تتوافق مع متطلبات النظام الديمقراطي".
وأوضح أن مسؤولية البرلمان "تتمثل في سن قوانين متقدمة تحمي حرية التعبير وتضع حدوداً واضحة لإقامة الدعاوى، بما يمنع استخدامها كأداة لقمع الأصوات الوطنية".
وخلص الزبر الى القول: "نحن على ثقة بأن القضاء العادل سيبقى الملاذ الآمن لحماية حرية الرأي، وأن مجلس القضاء الأعلى قادر على معالجة هذه الحالة وإغلاق الباب أمام الدعاوى الكيدية التي تُستغل سياسياً لإسكات العراقيين الشرفاء".