تتسع يوما بعد آخر مساعي التضييق على الحريات، وعلى حق التعبير عن الآراء والمواقف السياسية والفكرية وحق الاجتهاد، وغير ذلك مما قضى به الدستور، الى جانب ازدياد القيود على عمل منظمات المجتمع المدني وكيل الاتهامات لها. ويجري هذا وذاك وغيرهما باتخاذ إجراءات واعتماد توجهات تصادر الحياة الديمقراطية. اجراءات تفرضها جهات متعددة، حكومية وغير حكومية، مع محاولات تشريع قوانين تستند الى هيمنة كتل متنفذة في مجلس النواب.
وتؤشر التطورات ومجريات الاحداث، كذلك الإجراءات التنفيذية والتشريعية، وجود نهج يسعى إلى تقويض مساحات الحريات المدنية، وقضم ما هو محدود من هامش ديمقراطي في البلد، وفرض نمط تفكير اقصائي، وتنميط حياة المواطنين.
كل هذا وغيره ينم عن ضيق بالرأي الآخر المختلف، وعدم تقبل الانتقاد، وملاحقة العديد من الناشطين والمدونين، فيما التهم جاهزة استنادا لما تركه النظام المقبور، الذي فصّلها في زمنه على مقاساته، لخنق ايّ صوت لا يسبّح بحمده. والغريب ان حكام اليوم - معارضي ذلك النظام، يلجأون الى تلك الفبركات القانونية لتبرير اجراءاتهم المنافية لحقوق الانسان، ولما جاءت به مواد الدستور النافذ.
وتشهد الجامعات ملاحقةً لمواقف الأساتذة والطلبة، وفرضا لقيود ثقيلة على الرسائل والاطاريح، التي لا تمر اذا حملت ولو إشارة نقد خفيفة للمنظومة الحاكمة. وفي الوقت الذي تجري فيه متابعة منظمات طلابية معينة ويحظر نشاطها، يسمح لمجموعات طلابية أخرى واضحة في توجهها الذي يتوافق مع خيارات السلطة والمتنفذين. بل وتقدم لها المساعدات السخية، بجانب اقامة فعاليات لاحزاب نافذة في حرم الجامعة، فيما تزداد مساعي تأطير التعليم باتجاهات طائفية معينة.
من جانب اخر تتواصل محاولات الكتل البرلمانية المتنفذة لتمرير قوانين تصادر الحريات (قانون حرية التعبير والتظاهر السلمي وقانون حق الحصول على المعلومة وقانون جرائم المعلوماتية)، كما جاءت في المادة ٣٨ من الدستور. كذلك اجراء تعديلات على النافذ منها، يعود بها سنوات الى الوراء، كما هو الحال مع التعديلات المراد فرضها على قانون الأحوال الشخصية لسنة ١٩٥٩. وهي تعديلات ذات نفس طائفي مقيت ومرفوض.
واخذت وزارات في الدولة تتفنن في تكميم الافواه، ومن ذلك اعمام وزارة التربية بمنع منتسبيها من ابداء الرأي بالشان السياسي على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي تراجعت عنه امام الرفض الواسع ضده. كذلك قرار وزارة التعليم العالي بمنع أي نشاط لمنظمات المجتمع المدني، دون الحصول على ترخيص من جهاز الاستخبارات.
وتزامنت تلك الممارسات الممنهجة مع أخرى تحاول النيل من كل الأصوات الناقدة للوضع العام، بحجة «التشويش على الاستقرار» و«الإضرار بسمعة الدولة» و«الحفاظ على تقاليد وعادات المجتمع» والتي يتم التعامل معها انتقائيا، وغير ذلك من المبررات التي تسوقها قوى السلطة ومسؤوليها.
ولم يكف هذا، بل عمدت السلطات إلى قمع الاحتجاجات في اكثر من مناسبة ومكان، الأمر الذي مرّ من دون عقاب لمن وجه القمع ونفذه، وأمام مرأى ومسمع أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجالس المحافظات والسلطة القضائية، الذين لم يحركوا ساكناً. وما زالت تُمارس عملية انتزاع التعهدات المشينة، وتقوم بها جهات وعناصر تحسب على الأجهزة الأمنية، كما حصل في كربلاء مؤخرا، وقبله في محافظات ومناطق أخرى. كما يحصل ان تُرفع دعاوى كيدية ضد بعض الصحافيين ومقدمي البرامج، وان يُمنع ناشطون من الظهور في وسائل الاعلام، وتُحجب مواقع الكترونية، ويحظر بعض البرامج السياسية وتجري ملاحقة مقدميها. هذا إضافة الى بروز ظاهرة شراء ذمم الكثير من المدونين، وشراء صفحات بعض مواقع التواصل الاجتماعي، وتسخيرها لخدمة متنفذين في السلطة وخارجها.
وواضح أن القوى والأحزاب القابضة على السلطة باتت تضيق أكثر بالنقد، وتحاول جاهدة منع عودة الحراك الى الشارع العراقي، عبر شراء الذمم تارة وبالتضييق والتهديد تارة أخرى، غير متورعة حتى عن استخدام العنف ضد الناشطين والمحتجين والمطالبين بحقوقهم، في مشهد يعيد الى الاذهان ما مارسته القوى المتنفذة من قمع وعنف وقتل عمد بحق المشاركين في انتفاضة تشرين ٢٠١٩، والتي تنصلت الحكومة عن تعهدها اواخر السنة الفائتة بكشف مرتكبي تلك الجرائم.
ان هذه الممارسات والانتهاكات الفظة لحريات وحقوق أساسية، تبيّن وجود محاولات ممنهجة لفرض هيمنة ثقافية معينة، ولإلغاءٍ فعلي للتعددية الفكرية والقومية والدينية والسياسية في مجتمعنا. كما تشير الى مدى الانحراف عن مسار بناء دولة ديمقراطية، يتمتع كافة أبنائها بالحقوق والحريات كاملة، وفقا لما ينص عليه الدستور، وتؤشر بإلحاح ضرورة العمل على مختلف المستويات، لوقف ما يجري وفرض احترام الدستور ومواده، والتوقف عن التعامل الانتقائي معها.
ان هذا العمل الكبير يتطلب توحيد جهود جميع القوى، أحزابا ومنظمات مجتمع مدني ونقابات واتحادات وشخصيات وطنية، من اجل وقف ما يجري من عبث، ولحماية الحقوق والحريات الديمقراطية كما نص عليها الدستور.