تتضح يوماً بعد آخر معالمُ التوجهات الاقتصادية والاجتماعية، التي ينجم عنها اتساع الفرز الطبقي والاجتماعي، والنمو المتسارع للعلاقات الرأسمالية في ظل تطور رأسمالي تابع ومشوّه واقتصاد سوق منفلت، وتكريس هيمنة الأقلية الحاكمة على الحياة الاقتصادية وتحكمها بثروات البلاد، في مقابل أغلبية ساحقة تنهكها ظروف المعيشة البائسة والفقر والبطالة، جراء تداعيات الأزمات وسوء الخدمات الأساسية. ويتضح ذلك بشكل جلي في الميل الى تخلي الدولة عن قطاعات أساسية، وإطلاق العنان للخصخصة، وحجب الدعم عن العديد من المجالات الخدمية والإنتاجية.
وجراء الإصرار على النهج الفاشل والمدمر، نهج المحاصصة والتخادم، تغيب الاستراتيجيات وتحل محلها سياسة «إطفاء الحرائق»، وما يصاحبها من هدر للأموال والوقت، وضياع فرص حقيقية للبناء والتقدم.
وبفعل تداعيات الازمة العامة التي تشمل أيضا البناء السياسي والمؤسسي للدولة، واستمرار مسارات السياسة الاقتصادية والمالية ذاتها المعتمدة منذ ٢٠٠٣ وتعمق جوانبها السلبية، فان من المرجح كثيرا ان تشتد مظاهر الاختلال في البنية الاقتصادية والاجتماعية، وان يتعمق التفاوت في الدخل والثروة، بجانب الطابع الريعي والاحادي للاقتصاد العراقي، وازدياد تخلف الصناعة والزراعة، وغياب مستلزمات تحقيق تنمية حقيقية ومستدامة.
وبالإضافة الى التشوه الحاصل في بنية الاقتصاد العراقي وقاعدته الريعية الهشة، المعتمدة على أسعار النفط عالميا وتقلباتها، أدى سوء الإدارة وغياب الرؤى والتخطيط العلمي الرصين، واستشراء الفساد والفشل في مؤسسات الدولة وفي مشاريع الاستثمار، الى تبديد ثروات مالية واقتصادية كبيرة وطاقات بشرية. ولا ادل على ذلك من العدد الكبير من المشاريع غير المنجزة وتلك الوهمية.
وفاقم من ذلك السعي المحموم للقوى المتنفذة والماسكة بالسلطة الى تعظيم المكاسب وتقاسم الثروات، من خلال التوظيف الزبائني، وتضخيم الرواتب والامتيازات، والاستحواذ على المشاريع والأموال المخصصة لها.
وادى ذلك الى تهميش واضعاف القطاعات الإنتاجية، لاسيما في الصناعة والزراعة، وتكريس الأنماط الاستهلاكية، والاعتماد على واردات النفط في تمويل الموازنات العامة، والنسبة العالية لهذه الواردات في تكوين الناتج المحلي الإجمالي، وفي توفير العملة لتمويل الاستيرادات الكبيرة ايضا.
وبالرغم مما توفر لدى الحكومة من إمكانيات مالية هائلة، بفضل ثبات أسعار النفط عند مستويات جيدة، وتراكم الأموال في دوائر الدولة والمحافظات من تخصيصات المشاريع غير المنفذة، فان ما تحقق بعد تشكيل الحكومة لا يعكس حجم الإنفاق الكبير، ولا يؤشر تغييرا في السياسات والإجراءات التي دأبت على اتخاذها الحكومات السابقة.
ورغم إعلان حكومة السيد السوداني انها حكومة «خدمات»، لم يُلحظ في عملها توجه جدي لتطوير الخدمات الأساسية، لاسيما في قطاعات الكهرباء والماء والتعليم والصحة والنقل والسكن. إضافة الى ان عددا من المشاريع السريعة، خاصة ذات العلاقة ببناء المجسرات وتبليط الطرق، تحوم حولها تساؤلات ذات صلة بآلية التنفيذ المباشر، والتكاليف العالية، وكفاءة المنجز. وهي وان تخفف قليلا من الاختناقات المرورية في بغداد، فانها لا تعالج أزمة البنية التحتية بالكامل، في حين يجري توظيفها في الصراع السياسي ومراكمة الرصيد الدعائي والانتخابي.
وهناك جهات سياسية متعددة توظف أيضا حاجات المواطنين، لاسيما في التوظيف والتعيين والحصول على منافع الرعاية الاجتماعية، لمصالحها الضيّقة، ولكسب الولاءات في اطار ما يُعرف بالزبائنية السياسية، فيما يظل الفساد معوّقا كبيرا للتوظيف السليم للموارد وتقديم الخدمات للمواطنين.
وبدلا من المضيّ في الاستثمار بمشاريع منتجة تستقطب الأيادي العاملة المعطلة، وتحقق نقلة نوعية في بنية الاقتصاد العراقي، سلكت الحكومة الطريق السهل، ولكنه الطريق المكلف على صعيد المستقبل، والمتمثل في فتح باب التوظيف في مؤسسات الدولة، وتحميل موازنة البلد عبئا كبيرا. ومع ذلك تبقى عاجزة عن استيعاب الاعداد المتزايدة، التي تدفع بها الجامعات والكليات الحكومية والأهلية الى سوق العمل، فيما يجري الحديث بالنسبة لآلاف الخريجين وباختصاصات مهمة، مثل طب الاسنان والصيدلة وغيرهما، عن انه لا حاجة للبلد الى هذه الاعداد الكبيرة منهم.
(( يتبع ))