رغم ما اُعلن ويُعلن عن التوجه لتنويع الاقتصاد العراقي، فإن الواقع الفعلي يؤشر أنه ما زال اقتصادا ريعيا، وحيد الجانب، يعاني من اختلالات هيكليات وبنيوية كبيرة، ويعتمد بشكل أساس على إيرادات النفط الخام المصدر.
فهذه الايرادات هي ما يُعتمد عليه في تكوين الناتج المحلي (بنسبة 68 في المائة) وفي تمويل الموازنات العامة (بنسبة تتجاوز 95 في المائة) وفي توفير الأرصدة بالعملات الأجنبية والاحتياطي النقدي.
وبهذا فإن اقتصادنا هش ومكشوف للمتغيرات، لاسيما ما يخص أسعار النفط على الصعيد العالمي، فيما تظل أسعار المواد المستوردة، وهي كثيرة، رهينة أسعارها العالمية وحالات التضخم والمتغيرات الدولية المختلفة. وقد قُدِّر إجمالي إستيراداتنا بـ (70) مليار دولار عام 2023، اي ما يعادل (80) في المائة من إيرادات العراق النفطية للعام 2023 البالغة (97,5 ) مليار دولار.
فلم يتم إيلاء الاهتمام الكافي لتطوير القطاعات المنتجة، خاصة الزراعة والصناعة، وظل ما يخصص لهذين القطاعين في الموازنة العامة لا يتناسب مع أهميتهما، فلم تزد نسبة كل منهما على 1 في المائة في موازنة 2024.
وسعت الحكومة الى تأكيد أن العراق بلد آمن ومستقر، في مسعى للقول أن في العراق بيئة صالحة للاستثمار ولجذب الاستثمارات. ولكن كثرة من الاحداث والتطورات لم تسند ذلك، خاصة لجهة ما يتعرض له المستثمرون من مضايقات وابتزازات وصعوبات أمنية. وهذا ما عكسته بشكل جلي جولتا التراخيص الخامسة والسادسة، اللتان أعلنتهما وزارة النفط في أيام 11-13 آذار 2024 وتضمنتا عرض 29 حقلا ورقعا استكشافية نفطية وغازية. وبغض النظر عن التساؤلات بشأن جدوى هذه الجولات الجديدة، فلم تتم إحالة الا 13 مشروعا، ويشكك المتخصصون بمدى قدرة الشركات المُحالة اليها تلك المشاريع على تنفيذها.
كما لم تتمكن الحكومة ووزارة المالية والبنك المركزي من السيطرة على سعر صرف الدينار مقابل الدولار الأمريكي، ومن العودة به إلى السعر الذي اتخذته الحكومة وهو (1320) دينارا للدولار الواحد، وما زالت الفجوة بين السعر المقرر والسعر الموازي كبيرة.. وقاد هذا الفرق في السعر إلى تشجيع المضاربة وحصول المصارف وشركات الصيرفة المسجلة في نافذة العملة على أرباح فائقة. كما ساهم تذبذب سعر صرف الدولار في سوق العملات في إرباك التعاملات التجارية والحركة الاقتصادية عموما. كما لم يؤدّ خفض السعر الرسمي لصرف الدولار إلى الحيلولة دور ارتفاع الأسعار، ولا سيما اسعار الكثير من المواد الغذائية والسلع الأساسية، ما ضاعف معاناة المواطنين من إنخفاض القيمة الشرائية للدخول والرواتب. فكان أكثر المتضررين هم من يتسلمون رواتب من الدولة، ويقرب عددهم مع أسرهم من (20) مليون مواطن.
وإلى جانب التوظيف غير المدروس في مؤسسات الدولة، جرى التوسع كثيرا في تقديم الرعاية الاجتماعية، رغم ما يعلن بين فترة وأخرى عن آلاف المتجاوزين عليها، حيث يزيد الرقم الكلي للمستفيدين منها على 8 ملايين مواطن. ويتوجب القول بأن طريقة الحصول على الرعاية الاجتماعية يُثار بشأنها أيضا الكثير من الشكوك، إضافة الى توظيفها سياسيا وانتخابيا.
ومن جانب اخر تشير المعطيات الى تعمق حالة التفاوت والفرز الطبقي والاجتماعي وارتفاع معدلات البطالة، حيث وصلت في بداية عام 2024 الى 16,5 في المائة، فيما تجاوزت نسبة الفقر 22 في المائة (أي عشرة ملايين مواطن). وهناك ما يقرب من 6 ملايين يتيم ومليوني أرملة، وأكثر من 4 ملايين شخص يعيشون في العشوائيات.
ان مجمل التداعيات الاقتصادية والاجتماعية يؤشر ضرورة مراجعة جذرية للسياسة الاقتصادية والمالية، والعمل على وضع الخطط والمشاريع لتنويع الاقتصاد، وتنمية القطاعات المنتجة وحماية المنتج الوطني، والتصدي الفعلي للفساد، والتقليل التدريجي للاعتماد على النفط، والحؤول دون القاء تبعات ذلك على عاتق المواطنين، في حين يتوجب إصلاح النظام الضريبي وتحسين جباية موارد الدولة.
((يتبع))