تؤشر ارقام الجداول المالية للموازنة العامة لسنة ٢٠٢٤ ، وجود زيادات في النفقات التشغيلية وتوسع وظيفي زبائني، على حساب تخصيص مبالغ مجزية لعمليات الاستثمار الفعلي وتنويع الاقتصاد العراقي، وإعادة الحياة الى الحقول المنتجة في القطاعين العام والخاص، بما يزيد من واردات الدولة ويخفض تدريجيا من الاعتماد على واردات النفط، وبما يُوجد فرص عمل لملايين المواطنين، خاصة من الخريجين الذين تدفع بهم مؤسسات التعليم الى سوق العمل، من دون دراسة وتخطيط للاحتياجات الفعلية. ولتحقيق ذلك وغيره لابد من من حملة وطنية شاملة لمكافحة الفساد والفاسدين وللاسترجاع الكامل للاموال التي بذمتهم.
ويمثل فشل الموازنة العامة وطريقة اعدادها وهيكلة بنائها واحدا من أهم مؤشرات سوء إدارة المال العام، وغياب الرؤية الاقتصادية والمالية للدولة، المبنية على أسس علمية. سلمية وتوظيف عقلاني للموارد.
وقد بينت جداول الموازنة لسنة 2024 التي تقدمت بها الحكومة واقرها مجلس النواب، مواطن الاختلال الشديد في بنية التخصيصات، وفي الأوليات التي لا تنسجم مع متطلبات تحقيق تنمية حقيقية للاقتصاد العراقي وتنويع قاعدته الإنتاجية، فيما توجد مخاوف جدية من استمرار هذا النهج في السياسة الاقتصادية والمالية، ومن إمكانية استدامته. علما ان جداول الموازنة هذه قُدمت، كما في سنوات سابقة، من دون حسابات ختامية، في مخالفة سافرة للقرار الذي اصدرته المحكمة الاتحادية، بعد الدعوى التي تقدم بها حزبنا الشيوعي العراقي.
ومن أبرز ما يميز هذه الجداول التضخم في أرقامها، إذ ارتفع إجمالي النفقات إلى حوالي (212) ترليون دينار، بزيادة تتجاوز (13) ترليون دينار عن تخصيصات عام 2023. وارتفعت تخصيصات تعويضات الموظفين والعاملين في الدولة إلى (63) ترليون دينار، وبذلك تمثل حوالي (30) في المائة من إجمالي النفقات و(40) في المائة من النفقات التشغيلية.
وتلاحظ أيضا الزيادة في تخصيصات الرعاية الاجتماعية والإعانات، والمبالغ المخصصة لتغطية أثمان شراء المحاصيل الزراعية من الفلاحين، بينما ظلت تخصيصات البطاقة التموينية ثابتة بحوالي (1.7) ترليون دينار لعموم العراق.
ومقابل جانب التوزيع هذا ذي البعد الاجتماعي، تكشف الجداول استمرار الزيادة في تخصيصات الأمن والدفاع، التي ارتفعت نسبتها من (15) إلى (16) في المائة من اجمالي النفقات، فهي تزيد على تخصيصات قطاعات الصحة والتربية والتعليم والصناعة والزراعة مجتمعة. فيما بقيت تخصيصات الصناعة والزراعة لا تتجاوز (1) في المائة لكل من القطاعين. أما قطاع التشييد والإسكان، الذي يحتل أهمية كبيرة بالنظر الى شدة أزمة السكن، لاسيما بالنسبة لذوي الدخل المحدود وعديمي الدخل، والذي لا يجد القطاع الخاص مصلحة وحافزا ربحيا للإستثمار فيه ببناء المساكن للشرائح المذكورة، فلم تزد نسبة التخصيصات له على (3) في المائة.
لقد عكست هذه الموازنة لجوء الحكومات المتعاقبة بصورة متزايدة، الى الاقتراض الداخلي والخارجي لتمويل موازناتها المتضخمة.
وارتفع العجز إلى مستوى قياسي غير مسبوق، بلغ ما يقرب من (64) ترليون دينار، وذلك بعد أن تم تعديل سعر بيع برميل النفط من (70) دولارا في موازنة 2023 إلى (80) دولارا للبرميل الواحد، في إجراء غير مدروس وفّر (17) تريليون دينار لتخفيض العجز المخطط، وإلاّ لكان قد وصل إلى (81) تريليون دينار. وارتباطا بهذه الزيادة، أصبحت خدمة الدين (16.7) ترليون دينار، ما يمثل (11) في المائة من الموازنة التشغيلية مقابل (10) في المائة في عام 2023.
إن الاستمرار في هذا المنحى أمر خطر وذو مزالق عدة، خاصة اذا ما عرفنا بأن نسبة الدين الى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 48,2 في المائة، ويمكن ان تصل في سنة 2029 الى (81) في المائة (التقديرات مختلفة)، ويبدو أن هناك اعتقادا خاطئا يقلل من ضرر المديونية الداخلية.
وتظهر جداول موازنة 2024 أيضا، أن حجم النفقات الاستثمارية انخفض بنسبة واحد بالمائة ليبلغ (55) تريليون دينار، ويشكل (26) في المائة من مجموع الموازنة. وهي ذات النسبة في الموازنات السابقة.
وفي الجداول انخفضت نسبة العوائد النفطية المخمنة بـ(120.5) ترليون دينار، من إجمالي الإيرادات التي تقدر بما يقارب (148) ترليون دينار، إلى (81) في المائة، لكن الزيادات ((غير النفطية)) لم تأت بفضل نشاطات اقتصادية إنتاجية وخدمية جديدة. وستنعكس هذه الزيادة بشكل او بآخر على المواطن، الذي ستشركه الحكومة في سداد جانب من العجز مع انه غير مسؤول عنه. وهذه الموارد قد يعتبرها البعض تنويعا في مصادر تمويل الموازنة العامة، لكنها لا تمثل تنويعا اقتصاديا.
وفي الجانب الاجتماعي للإنفاق الحكومي، فإضافة إلى التوظيف غير المدروس، جرى التوسع كثيرا في تقديم الرعاية الاجتماعية، رغم ما يعلن بين فترة وأخرى عن آلاف المتجاوزين عليها، حيث يزيد الرقم الكلي للمستفيدين منها على (8) ملايين مواطن. ويتوجب القول أن طريقة الحصول على الرعاية الاجتماعية يُثار بشأنها أيضا الكثير من الشكوك، إضافة الى توظيفها السياسي والانتخابي.
ان قراءة متمعنة في الموازنات العامة، تؤكد الحاجة الماسة الى مراجعة شاملة لطرق وآليات إعداد الموازنة وهيكلتها، وإعادة توزيع سليم للموارد، مع السعي الجاد للتخلص من الفساد والبيروقراطية ونسب التنفيذ الواطئة.