اخر الاخبار

هل يمكن للديمقراطية أن تكون شجاعة؟ وهل للشجاعة أن تكون بطولة، أو أن تكون حمقا؟ هذه الأسئلة ليست بريئة، ولا علاقة لها بشروط مواجهة المستقبل، بقدر ما تكشف لنا عن الرعب الذي نعيشه، وعن صور العالم الذي يسعى للتخلص من قاموسه القديم، والاستعداد لمواجهة سرديات العالم الجديد، العالم الذي سيكره حكايات الفروسية والفرسان، وسيعيد تنظيم حاكميته عبر مركزيات سياسية واقتصادية وايديولوجية، تُدير النظام العالمي، وسلطته التي تحولت الى مصحة كبيرة لاحتواء ابطال عصر ما قبل الحداثة، الذين تغذوا كثيرا بحكايات الفرسان والثوار وسيرة الفايكنغ.. في الزمن العولمي، وتحت ما تصنعه "الليبرالية الجديدة" من اغترابات عميقة لم تعد الشجاعة صالحة لأن تحتفظ بمعناها الفروسي والأخلاقي، وتمثيل فكرة التعالي، أو برادايم البطل الغاطس بالاسطورة والمثيولوجيا، وحتى الحديث عن فكرة الاستعادة لن يكون صاحبها بريئا هو الآخر وسط سياسات تنحاز الى سلطة العنف، والى ربط الشجاعة بقوة تلك السلطة السياسية والأيديولوجية والعسكرية.. كتاب "نهاية الشجاعة: من اجل استعادة فضيلة الديمقراطية" ل "سينتيا فلوري" بترجمة عبد النبي كوارة، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ الدوحة 2017 يضعنا في سياق القراءة الفلسفية لمفهوم الشجاعة، وعلاقتها بالسلطة والايديولوجيا والديمقراطية والثورة، من خلال تجاور مفاهيمي رومانسي، تغيب عنه الذاكرة التي ربطت الشجاعة بالفضيلة، والشجاعة بالبطولة، فالغياب هنا يعكس شكلا فارقا للاندحار والهزيمة، وتقوّض الاخلاق التي جعلت من "المجتمعات الحديثة" تنظر للشجاعة بمنظار برغماتي، قد يقودها الى اغترابات معقدة، والى انهيارات أيديولوجية وقيمية، والى إعادة صياغة مفاهيم البطل والشجاع والفضيلة، لا سيما مع هيمنة مركزيات مرعبة للرأسمالية والليبرالية وحتى للشعبوية، وتغولها كظواهر لتزييف الوعي واستلابه، حتى بات الحديث عن "الديمقراطية" و"التنوع" والتعدد الهوياتي" مضللا ومهدَدا بمركزيات موازية، داخلية وخارجية، لديها أدوات الرقابة والسيطرة والاحتواء، والاقتصادات الضاغطة، عبر البنوك ومراكز الأبحاث والشركات العابرة للقارات، فضلا عن قدرتها على حيازة وسائط انتاج، يمكن أن تقود الى مزيد من المركزة، وتمثيل "ذات الأفكار" التي تخص سرديات "نهاية التاريخ" و"الانسان الأخير" وغيرها.. تعيدنا فلوري في كتابها الى فكرة "الفرد التائه" الذي يبحث عن اساطير جديدة، وعن "آلهة" تمنحه شجاعة الاحتماء بالغيب والسلطة، مثلما تجعله اكثر شعورا بالضآلة، وبما يدفعه الى البحث عن مؤسسات حمائية، وعن "شجاعات" لا علاقة لها بالتاريخ، قدر علاقتها بالقوة والمال والسيطرة الخوارزمية، لأن ما يهدد هذا الفرد من زوال يجعله مهووسا بفكرة الاحتماء التي تصنعها له الهيمنة وليست الفضيلة، وأن عبوره الى مناطق التلذذ والاشباع ستكون مرهونة بفاعلية تلك الصناعة، وبما تملك من أدوات القوة بدءا من قوة الاعلام والمعلومات واللغة والسوق وصولا الى قوة البيئة والسلاح النووي..

ما لا تصنعه الشجاعة..

الحديث عن "استعادة فضيلة الديمقراطية" سيكون متناقضا مع تقوّض مفهوم "الشجاعة" ودخول العالم الى زمن ما بعد العولمة، إذ تصطدم الأفكار بسيرة الفرد البطيء، والحالم بشهوات تلك الاستعادة، فما يعيشه سيجعله أكثر فزعا، لأن الشجاع تحول الى ما يشبه "الدون كيشوت" في حربه مع الأشباح والطواحين، وأن علاقته بالزمن ستكون "سائلة" وعلاقته بالآخرين ستكون "مُذلِة" وربما ستُعيده الى فكرة الفيلسوف ميشيل فوكو عن "الجسد الطائع" والمراقب، والمهدد بالقمع والمعاقبة، وأن نظرته للديمقراطية البرجوازية ستكون قريبة من السخرية، حيث سيتقوّض "المجال العام" وستضيق الحريات،  وأن ما يمكن أن يصنعه من أفكار حول "المعاصرة"  و"ما بعد الحداثة" سيرتهن الى الإفصاح عن " مدى قدرته على أن يكون فاعلا في أداء وظيفة الشجاعة، والمعرفة التي تساعده على مواجهة:  كيف يثبت ظلمة الحاضر" كما تنقل المؤلفة عن "جورجيو اغامبين" لكن ذلك لن يكون واقعيا، فـ "ظلمة الحاضر" تمثل تعقيدات العالم السياسية والاقتصادية والأمنية، وأن عودة الفرد الى ذاته سيكون عودة الى ما يشبه الرومانسية، و"الخلاص المسيحي" الذي سبق وأن سخر منه نيتشه في نهايات القرن التاسع عشر.

الشجاعة التي حاولت طرحها المؤلفة لا تعني مواجهة الخوف فقط، والدفاع عن الكبرياء، لا حتى البحث عن "التوفيق مع الاستقامة والمرونة" بل تعني الدفاع عن قيم صنعتها البشرية منذ الاف السنين، لا سيما الفلسفة والديمقراطية والحرية والحب والعدل، وهي تمثلات معنية بفكرة الحب، والقانون، والعقل، لكنها بالمقابل صنعت حدودا لها، هي حدود السلطة والدين، والأخلاق التي تحولت الى "قوة مضادة" لم تحم الانسان من الحروب الدينية والكوارث الطبيعية ومن الكراهية العنصرية.. ضم قسمين من الكتب جمعت بين "آيات الشجاعة" و" سياسة الشجاعة" لكن العناوين الفرعية كانت أكثر اثارة، وأكثر جدلا لمقاربة ما هو اشكالي في محنة تداولية مفهوم الشجاعة" حسب اختلاف مستويات النظر الى "فن إرادة الشجاع" والى "الشجاعة أو ظلمة الضوء" و "الشجاعة ومعنى الخوف" و" كوجيتو الشجاعة الذي لا يُعوّض" و" من اجل نظرية جمعية للشجاعة" و" ابستمولوجيا الشجاعة والاعتراف" وفي " تزوير الشجاعة: هل هي نهاية الشعب وخزي النخب" و" ميثاق شجاعة وممارسة قول الحقيقة" وغيرها.

وسط هذه العناوين وضعت المؤلفة تصورها عن كل ما يتعلّق بالشجاعة، على مستوى علاقة الشجاعة بالواجب والحرية والإرادة، وعلى مستوى أن يفهم الفرد دوره الأخلاقي بمواجهة الاكراهات التي تفرض عليه القوى المهيمنة، لتجعله جزءا من مركزيتها، وعلى نحوٍ يفتح خيارا للمساءلة، حول علاقة تلك الشجاعة بالحكمة، وأن تلك الحكمة تقتضي أحيانا الخضوع، وإعادة النظر بمفهوم التاريخ الذي ترسخت فيه سرديات متعالية للشجاعة، ولمفهوم البطل و"الانسان الشجاع" حتى لمفهوم "الاجتماع الشجاع" الذي يعني تمثيل الخضوع العام لستراتيجات السياسة والايديولوجيا، ولفكرة "المدينة" التي يحميها النظام، والعقل الذي تحميه "الابستمولوجيا" وبالتالي وضع الفرد امام قطيعة من الصعب السيطرة عليها، حيث سيكون القانون الحاكم " لا يستند بالضرورة الى العدالة، بل الى عنف تأسيس خفي يمنحه السلطة" كما يقول جاك دريدا في "قوة التشريع".

الشجاعة والسياسة

يحمل القسم الثاني من الكتاب هواجس المؤلفة وهي تنظر الى هذه الثنائية من خلال مأزق التاريخ، ومأزق مدوناته، فما يحفل به التاريخ من قطائع، وضعه أمام مأزق وجودي،  مثلما وضع الديمقراطية والحرية أمام تهديد حقيقي، لا يملك فيها السياسي سوى اشباح من بطولته القديمة، حيث يكون فيها الشجاع أنموذجا للبطل السردي المتخيل، والمُهرب من الرواية والحكاية الى الواقع، قبالة "الشجاع البرغماتي" وصور "المثقف الثوري والنقدي والعضوي" الذي سيفقد كينونته امام مركزية العالم الرأسمالي، وسردياته الرمادية، فلا حلول واقعية ونقدية له ولعقد أزماته وهزائمه  ورثاثته سوى البحث في تاريخه القديم، عن اشراقات لم تعد صالحة، وثورات فقدت جدواها، إزاء عالم الرأسمال الذي تضخم، وتغول، وبات يصنع حروبا وأوبئة وصراعات هوياتية، فضلا عن  صناعات لبطولة "الخطاب الإعلامي والسينمائي والمعلوماتي والاستثماري" ومؤسسات التطويع والقمع والمراقبة والاغتيال. فقولها "إن البحث في اختفاء الشجاعة السياسية الخلقي أمر لا يُحاكم بتشدد، في حين تبدو مناقشة طبيعتها بلا فاعلية إن لم نعلم مباشرة عن رجعتها أو عن استدامتها. مع ذلك، ليس هناك ما هو أقل ثباتًا، لأن تعقب المعنى أحيانًا يعيد توجيه السبيل في اتجاه الفعل" يدخل في باب مراجعة المفاهيم، وفي إعادة النظر بالقضايا التي تخص علاقة السياسة بالشجاعة، وبالكيفية التي تتيح للسياسي أن يملك ارادته، وفي أن يحمي برنامجه، وفكرة تمثيله الديمقراطي للجمهور الذي اختاره عنوانا ديمقراطيا في مؤسسات الدولة التشريعية، ويمكن لهذه الفكرة ترحيلها الى وظيفة المثقف النخبوي أو النقدي أو العضوي، فهل سيظل هذا المثقف وفيا لمرجعياته الأيديولوجية، ولفكرته عن المعرفة، وعن القطيعة، وعن أن يكون قائدا وبطلا وصانعا استثنائيا للسرديات "المضادة". التحول في النظر الى الشجاعة، لا يعني الذهاب الكامل الى التجريد، بل بالنزوع الى البحث عن خيار آخر، تُلخّصه المؤلفة ب "قول الحقيقة" وبما يظهره من قيمة، ومن تعالٍ، أو بما يجعله بديلا ليكون " اداة ستراتيجية في المجال السياسي، أو بالأحرى في مجال التواصل السياسي، حيث يتحول ممارس القول الشجاع إلى حامل قناع السفسطائي". ما يثيره هذا الكتاب من أسئلة ومن مفارقات سيظل يفتح أفقا للجدل حول الملتبس من المفاهيم، في توصيفها النظري، وفي سياقها الاجرائي، وبالاتجاه الذي سيضعنا إزاء مفارقات إعادة النظر بمفهوم النقد، الذي سيتخلى عن كثير من وظائفه، وسيُعنى كثيرا بعلاقة إدارة السياسات مع شجاعة قول الحقيقة، والتصرّف بها أخلاقيا وانسانيا، وفي الكيفية التي سيواجه بها "الانسان الشجاع" أزمته إزاء وعي الشجاعة والفضيلة والعدالة والحق. هذا المُعطى سيظل جزءا من ازمة المشاكلة المفاهيمية، ومن ازمة النظام العالمي الذي اخذته النيوليبرالية الى حروب معقدة، سياسية وايديولوجية ومعلوماتية، والى أوهام جديدة عن " البطولة والشجاعة" بعد تجريدها من الاخلاق، وربطها بالمصالح، لأن أي "سرديات مضادة" ستكون قاصرة في المواجهة، وفي الحرب، وفي المعرفة التي خرجت من التاريخ ومن المتحف، لتظل غاطسة في اللاوعي الجمعي، وفي سرديات "المتخيل التاريخي" واشباحه التي ستعيدنا الى مزيد من الأوهام، والى التماهي القهري مع حلول الغرب لأزمات الحرية والسوق والصناعة والديمقراطية..