اخر الاخبار

منتصف الشهر الماضي دخل السودان في المشهد الاخير للدولة الوطنية، وهو الحرب الاهلية التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي اشرف هو على تكوينها كقوات نخبة خفيفة الحركة، للاستعانة بها في تصفية المليشيات في اقليم دارفور. وقد وفر لها الحماية في مواجهة الملاحقة بسبب الفظائع التي ارتكبتها ضد السكان الاصليين هناك، بهدف إفراغ الارض من اهلها كملاذات وحواضن للقوات المتمردة، مما حصر سكان اقليم كامل في عدد محدود من المعسكرات حول المدن الرئيسية.

من ناحية اخرى كانت الخرطوم قد تأسست اصلا في عهد الاستعمار البريطاني بحيث يصعب اقتحامها من الخارج. وقد فشلت محاولتان للاجتياح، الأولى عام ١٩٧٦ من قبل  قوات الجبهة الوطنية، والثانية في الربع الاول من الالفية الجديدة، وهي عملية الذراع الطويلة التي قامت بها حركة العدل والمساواة .

لكن قوات الدعم السريع دخلت الخرطوم سلما لا حربا، حين دعا البشير قائدها حميدتي لفض الاعتصام عام ٢٠١٩. وتلك معضلة لم يواجهها الجيش منذ تأسيسه، حيث يتعين عليه ان يقاتل في عمقه الاستراتيجي المتمثل في عاصمة البلاد نفسها.   فهذه القوات الان تحتل القصر الجمهوري وتنتشر في محيط القيادة العامة والوزارات السيادية المنتشرة كلها في شارع الجامعة، الذي يتجه من الشرق الى الغرب ويطل عليه القصر. كما انها تنتشر في الاحياء الشعبية بعد ان تم ضرب معسكراتها التي يصل عددها الى ٨٠ معسكرا. وليس امام الجيش من طريقة لمواجهتها سوى قصفها بسلاح الطيران، وهو الذي كان يعتمد عليها كقوات برية.

حيث ان العملية مرشحة للمضي بعدة طرق، كلها تفضي الى نهاية دولة الامتيازات في السودان، التي تعتمد على الجيش في حماية مصالحها.  فان تم التوصل لتسوية سياسية فلن يعود الجيش هو مصدر القوة الوحيد في البلد كما كان من قبل .  اما ان تم تدويل القضية فلن تكون هناك دولة وطنية او في الحقيقة لن تكون هناك دولة، وانما كونتونات تتبع للدول العظمى او الاقليمية. فالنسخة الوطنية للدولة التي تجادلنا في تحديد ملامحها منذ الاستقلال عام ١٩٥٦ لم تفصح عن ملامحها بعد. والبلاد طوال هذه المدة لم يتوافق اهلها على دستور دائم، وظلت تحكم وفق دساتير انتقالية او اخرى  تفرضها الانظمة الشمولية، التي تعارضها النخب ولم يسمع بها الشعب، والتي تنتهي بانتهاء مراسم دفن النظام الديكتاتوري .

وبعد الثورة الاخيرة تنكرت النخب لوثيقة التوافق الوطني التي وقعت عليها الكيانات السياسية والمدنية المختلفة، واستبدلتها باخرى اجنبية تم اعدادها في مراكز مساعدة الدول الخارجة من النزاعات او النظم الشمولية. وقبل اندلاع الحرب كانت تجري عملية سياسية تم اعدادها في تلك المراكز، اسفرت عن اتفاق اطاري تم التوقيع عليه في الشهر الاخير من العام الماضي.

وبعد اندلاع المواجهات لم يتم تقديم مبادرة وطنية، وظل كل الفاعلين السياسيين والمدنيين ينتظرون الضغوط الدولية على طرفي النزاع. وقد برزت في هذا الصدد مبادرة ايغاد التي تتبناها المنظمة الاقليمية الافريقية للتنمية ويقف خلفها الاتحاد الافريقي. كذلك المبادرة السعودية الامريكية التي قبلت بها الاطراف. وقد ارسل الجيش مفاوضيه الى مدينة جدة وكذلك فعل الدعم السريع، فيما يستعد الوسطاء لاعداد المبادرة التي سبقتها مكالمة هاتفية بين وزيري الخارجية الامريكي والسعودي.  وقد رشح منها في الاخبار ان امريكا تدفع باتجاه استكمال الانتقال المدني الديمقراطي، استنادا الى ايعاز الرئيس الامريكي لوزارة الخزانة الامريكية بالنظر في فرض عقوبات على المتسببين في عرقلة الوصول الى اتفاق .

لكن الجيش اعلن ان وفده مفوض بمناقشة القضايا العسكرية والانسانية دون الدخول في مناقشة قضايا سياسية .في حين صرح قائد الدعم السريع الذي رحب بالمبادرة، انه يسعى من اجل قيام دولة مدنية تفتح الطريق للانتقال الديمقراطي،  وهو حديث ينظر له الكثير من السودانيين بعين الريبة والشك لكونه يصدر عن قائد مليشيا ارتكبت جرائم ضد الانسانية في اقليم دارفور من قبل  .

الجيش يبحث عن فك الخناق عن المواقع السيادية والحيوية وسحب قوات الدعم السريع الى الوضعية التي كانت فيها قبل اشتعال النزاع في الوقت الذي يسعى فيه الدعم السريع لتحقيق مكاسب سياسية استنادا الى الانحازات التي حققها.  لكن للوسطاء راي اخر.  وتباين وجهات النظر هذه يعتبرها المراقبون من العقبات التي ربما تعوق الوصول الى اتفاق .

لكن في كل الاحوال سيكون الحل دوليا، وعلى القوى الوطنية المختلفة تاييده دون اي اضافات  وبهذا نكون قد عدنا الى ذات النقطة التي كنا نعتقد اننا تجاوزناها برفع العلم. ومن المفارقات غير السارة ان الشاعر الذي قام بتاليف النشيد الوطني توفي الى رحمة مولاه في الايام القليلة الماضية.  وخلاصة القول ان البلاد لن تعود الى الوضع الذي كانت عليه قبل منتصف الشهر الماضي .

ورغم ان قيادات النزاع الحالي هم الذين قادوا الاوضاع  الى حالة الانفجار الحالية، فان من قصر النظر تحميلهم كل المسؤولية عن حالة سياسية تمثل ازمة وطنية شاملة، بسبب عدم قدرة النخبة على انتاج مشروع وطني مستمد من الواقع ومنفتح على التجربة الإنسانية، ويلتف حوله اغلبية اهل السودان. 

  وهذا الافلاس هو الذي فتح الباب امام الاصولية الدينية  التي قسمت البلاد، واشعلت الحرب الاهلية في دارفور وكل اقاليم السودان. وهذا العجز مستمر حتى الان وقد ظهر في ثورة ديسمبر التي هندست الانتقال فيها مراكز الدراسات العالمية،  مما قاد البلاد الى المشهد الاخير في الدولة الوطنية، التي ليس لها من اسمها الا  العلم والنشيد الوطني. وقد ظل الجيش يحميها طوال هذه الفترة الطويلة، لكنه عجز عن مواصلة السير بنفس الكيفية المأزومة .

عرض مقالات: