ظل الجيش السوداني مسيطرا على السلطة السياسية في البلاد منذ الاستقلال حتى اندلاع الحرب الحالية قبل حوالي ثلاثة اشهر. وخلال العقود المتعاقبة انهكت النزاعات العرقية والدينية البلد، حتى احالته الي خرائب ينعق فيها بوم الاصولية الاسلامية خلال الـ ٣٠ عاما الاخيرة.

وكان الجيش حريصا على الا تمثل الثورة الاخيرة استثناء او خروجا على هذا المألوف المتوارث، وعلى ان يشكل تحالف قوى الحرية والتغيير الذي قاد الثورة، حاضنة لسلطته المتجددة. لكن الاخير وقع بين مطرقة ضغط الشارع الذي اعلن انه لن يقبل بغير سلطة مدنية كاملة، وسندان الجيش الذي عقد العزم على عدم التفريط في سلطة ظل يستحلبها منذ عقود.

وفي الوقت الذي اخذ فيه الجنرالات يقلصون صلاحيات المكون المدني في مجلس السيادة ويستحوذون على المفاصل المهمة والاساسية في السلطة، استونفت المسيرات المطالبة باسقاط حكومة الفترة الانتقالية تحت شعار(تسقط ثاني)، بمعنى تسقط للمرة الثانية باعتبار ان الاولى كانت نجاح الثورة في الاطاحة بنظام البشير، وان الثانية هي اسقاط المجلس العسكري الذي يتكون من اللجنة الامنية للنظام السابق. 

 وافقدت المهادنة مع الجنرالات قوى الحرية والتغيير رصيدها في الشارع، فخرجت عليها غالبية لجان المقاومة، وانقسم عليها تجمع المهنيين بغالبية مكوناته وبرز للوجود تحالف قوى التغيير الجذري. واثّرت هذه المتغيرات بشكل كبير كما هو معروف على حكومة حمدوك.

حينها ادرك قادة الجيش انهم لا يمكنهم الاعتماد على هذا التحالف المدني، الذي لم يقطع وشائجه مع نبض الشارع وظل ينادي بعودة العسكر للثكنات ويستجيب لضغط القوى الثورية. فهو يعلم انه ان مال اكثر نحو العساكر فان جماهير الثورة ستتوجه نحو قوى التغيير الجذري وبضمنها الشيوعيون.

ولأن الجيش كان يعلم ان هذا التحالف لم يعد يملك نفس تاثيره الاول على الشارع، فقد انقلب عليه في ٢٥ تشرين ٢٠٢٢. لكن الجيش حين تلفت حواليه لم يجد قوى يستند عليها غير الاسلاميين. فاخذ يستعين بهم في تسيير دولاب الدولة رغم انكاره صلته بتنظيمهم.

وهذا التنظيم هو الذي تلعب كتائبه اليوم دورا مهما في ادامة الحرب المشتعلة، ومنها كتيبة البراء بن مالك التي قتل قائدها في سلاح المدرعات.

من جانبهم ادرك الاسلاميون ان الجيش وبالتالي النظام، لا سبيل امامه غير التحالف معهم. لكنه متردد ويخضع لضغوط القوى الثورية التي تعتبر ما وقع  انقلابا نفذه ضباط “خانوا العهد”. فكان لابد بالنسبة لهم من شل تذبذب النظام تجاههم ؛ وكانت الحرب التي بشّر بها قادتهم واغرقوا السودان بكوارثها.

اما الحديث الذي يرددونه عن ان الحرية والتغيير هي التي دفعت قوات الدعم السريع لاشعال فتيل الحرب فغير صحيح. ذلك ان الحرب تعني بالنسبة للجيش  فرض المعادلة السياسية القديمة التي ظل يحكم بها السودان بعد ذهاب الاستعمار. اما بالنسبة للاسلاميين فانها تعني عودتهم للحكم باعتبارهم القوى التي ناصرت الجيش ولم تقف على نفس المسافة بينه وخصمه.

واما ميليشيا الدعم السريع فقد ادركت، بعد تزايد تاثير الاسلاميين على قيادة الجيش، ان أوان التضحية بها قد آن  رغم كل المجهودات التي بذلتها في دحر التمرد في دارفور، ورغم قمعها الثورة في مجزرة فض الاعتصام. فاخذت تلعب على التناقض بين الجيش وقوى الحرية والتغيير والشارع الثائر. ولكنها لم تُحسن اللعب واستعدت الجماهير بسلوك افرادها غير المنضبط ، وبممارستهم السرقة والترويع  والاغتصاب في الخرطوم ودارفور، مما افقدهم اية حاضنة شعبية ممكنة.  بل حتى قوى الحرية التغيير التي تحاول ان تقف على الحياد وتطالب بوقف الحرب، لم تستطع ان تصمت على فظاعات الدعم السريع، مما اضطر قيادة تلك القوات للاعتراف بها ومحاكمة المتفلتين من عناصرها. لكن ذلك لم يهدئ من روع المواطنين او يوقف تلك الانتهاكات المستمرة حتى الان.

ورغم مرور حوالي 3 أشهر على اندلاع الحرب فان نهايتها لا تلوح في الافق رغم كلفتها البشرية العالية جدا، مما يجعل من التفاوض السبيل الوحيد لوقفها. ويبدو ان هناك قطاعات واسعة حتى من الاسلاميين وحتى وسط ضباط الجيش تقف ضد استمرار الحرب، التي يعتبرون انها كشفت عجز الجيش رغم مرور الاشهر الثلاثة عن حسم أمر المليشيا المتمردة عليه. كما عرّضت الدولة نفسها للتفكك على اسس عرقية وجهوية.

ويبقى السؤال المهم عما اذا ستفضي المفاوضات المرتقبة الى مشاركة الاسلاميين بعدها في السلطة ؟

 امريكا والاتحاد الاوربي يصران - حسب بعض التسريبات - على وقف دائم لاطلاق النار واطلاق عملية سياسية اساسها الاتفاق الاطاري بين الحرية والتغيير والمكون العسكري، الذي سبق التوافق عليه برعاية امريكية سعودية.  مع مشاركة المدنيين من الحرية والتغيير والمجتمع المدني ولجان المقاومة في المفاوضات.

اما الجيش فيتمسك بمشاركة الجميع في السلطة القادمة دون تمييز. وهذا  يعني ببساطة تعديل الاتفاق الاطاري وانهاء الصيغة التي تمنع الاسلاميين من المشاركة.

عرض مقالات: