اخر الاخبار

إلى جانب إمكانية قراءة «رأس المال» على أنه رواية قوطية يستعبد أبطالها ويستنزفهم وحش خلقوه بأنفسهم، تمكن قراءته، أيضاً، على أنه ميلودراما فيكتورية، كما رأى ستانلي هيمان في دراسته عن داروين وماركس وفريزر وفرويد بوصفهم كتّاباً مبدعين والمنشورة عام ١٩٦٢، أو على أنه تراجيديا إغريقية: «فالفاعلون في إعادة ماركس تلاوة التاريخ الإنساني واقعون، مثل أوديب، في قبضة ضرورة لا تلين تتجلى وتتكشف مهما فعلوا».

أمثولة المعطف والمنضدة

يحذر ماركس قراء «رأس المال» منذ البداية من أنهم يطأون أرضاً فانتازية يختلف فيها جوهر الأشياء أو حقيقتها عن مظهرها أو سطحها الخادع. يقول ماركس في الجملة الأولى من «رأس المال»: «تبدو ثروة المجتمعات التي يسود فيها نمط الإنتاج الرأسمالي وكأنها «تكدس هائل من السلَع»، وتبدو السلعة المفردة كأنها الشكل الأولي لهذه الثروة»(1). وما تعنيه هذه الـ «تبدو» وهذه الـ «كأنها» هو أننا ندخل عالم مظاهر خادعة وأشباح وأطياف. وصفحات «رأس المال» تعج بعبارات مثل «واقع شبحي»، و«شبح وهمي»، و«وهم محض»، و«شبه كاذب»، فلا يمكن كشف الاستغلال الذي تعتاش عليه الرأسمالية إلا باختراق حجب الوهم هذه بتوسل جميع الأسلحة المتاحة ومن بين أهمها الأدب والشكل الأدبي. فلكي يوضح ماركس وجهي العمل أو جانبيه الملموس والمجرد نجده يغرق في تأمل مسهب للقيم النسبية لمعطف وعشرين ياردة من القماش. يقول ماركس: «المعطف، حين يوضع في علاقة قيمة مع القماش، يعني شيئاً أكثر مما يعنيه خارج هذه العلاقة، تماماً مثلما يعتبر الرجل الذي يتبختر ببزة رسمية مذهَّبة أكثر أهمية منه بدونها»(2). فالقماش، بوصفه قيمة استعمالية، شيء مختلف عن المعطف، ذلك الاختلاف الملموس، أما بوصفه قيمة تبادلية، فهو الشيء ذاته في حقيقة الأمر، تعبير عن عمل مجرد. «يكتسب القماش شكل قيمة يختلف عن شكله الطبيعي. ويتجلى وجوده بوصفه قيمة من واقع مساواته مع المعطف، تماماً مثلما أن الطبيعة الخروفية للمسيحيّ تظهر من خلال شبهه بـ حَمَل الرب»(3). ويلاحظ ماركس، في آخر حكايته المتكررة المنهكة عن القماش والمعطف: «تبدو السلعة للوهلة الأولى شيئاً مبتذلاً جداً يُفهم من ذاته. أما تحليل السلعة فيبين أنها، في واقع الأمر، شيء غريب جداً زاخر بالأحابيل الميتافيزيقية والحذلقات اللاهوتية»(4).

وحين يرصد رحلة الخشب من كونه مجرد خشب إلى كونه منضدة تنزل السوق، يجد أن هذا الخشب، حين يتحول إلى منضدة، يبقى خشباً على الرغم من ذلك، أي يبقى ذلك الشيء العادي المحسوس. لكنه حين يغدو سلعة يتحول إلى شيء عصي على الأفهام. فالمنضدة «لا تكتفي بوضع أرجلها على الأرض، بل تقف على رأسها إذا جاز التعبير، إزاء السلع الأخرى، ويبدأ رأسها الخشبي بإطلاق أفكار غريبة، تفوق في الغرابة «رقص المناضد» من تلقاء ذاتها»(5).

هكذا يخفي السوق والتبادل العلاقة الاقتصادية الاجتماعية بين البشر وما تعكسه السلَع المختلفة من عمل منتجيها ليُلبَس ذلك كلّه «شكلاً خيالياً بصورة علاقة بين الأشياء». ولا يجد ماركس شبهاً لهذا التحول الغريب إلا في عالم الدين الملفع بالضباب: «ففي هذا العالم تظهر منتوجات الدماغ البشري= [أي الآلهة] بهيئة كائنات مستقلة تتمتع بالحياة، وتدخل في علاقات بعضها مع بعض ومع الجنس البشري. وهكذا أيضاً شأن منتوجات يد الإنسان في عالم السلع. هذا ما أسميه الصنمية (الفيتيشية) التي تلتصق بمنتوجات العمل منذ أن يتم إنتاجها كسلع...»(6)، حيث الصنم، بمعناه الديني، شيء يُجل ويُهاب لما ينسب إليه من قوى فوق طبيعية. وصنمية السلعة عند ماركس، تمثل «سيطرة الأشياء على الإنسان، سيطرة العمل الميت على العمل الحي، سيطرة المنتوج على المنتِج»(7).

وحين يحاول ماركس أن يبين من أين تأتي القيمة الزائدة، يتفحص هذا اللغز من منظور رأسمالي تحت التمرين يدعى «مالك النقد» قبالة عامل يدعى «صاحب قوة العمل»، يرصدهما في فصل عنوانه «يوم العمل» هو أطول فصل في المجلد الأول من رأس المال، وهو عبارة عن خلاصة لعدد من قصص الرعب، يضعها ماركس في إطار يناسبها من الأسلوب القوطي. يقول في الفقرات التمهيدية: «رأس المال عمل ميت، وهو كمصاص الدماء، لا يعيش إلا على امتصاص العمل الحي، ويزداد حيوية كلما يرتشف المزيد»(8).

في منتجات المجرِم

ولعل أدبية ماركس تبلغ واحدةً من أعلى ذراها وأرهفها في الهجاء والسخرية اللذين تنطوي عليهما تلك المقاطع من الجزء الرابع من «رأس المال» الذي يتناول فيه «نظريات القيمة الزائدة» ومحاولات الاقتصاديّن الكلاسيكيين التمييز بين العمل «المُنتِج» والعمل «غير المُنتِج». وكان آدم سميث قد أدرجَفي هذا الصنف الأخير كلاً من «رجال الكنيسة والمحامين والأطباء ورجال الأدب بأنواعهم والممثلين والمهرجين والموسيقيين ومغني الأوبرا وراقصيها، إلخ»(9)، وجميعهم «يعتاشون على جزء من النتاج السنوي لكدّ بشر آخرين». لكن هل كان التمييز بمثل هذا الوضوح وهذه البساطة حقاً؟ يشير ماركس إلى أن كل مهنة يمكن تصورها يمكن أن تكون منتِجة، ويشرع في محاولة لإثبات ذلك من خلال مثال يبدو مضحكاً وسخيفاً:

«ينتج الفيلسوف أفكاراً، والشاعر قصائد، ورجل الدين عظات، والأستاذ الجامعي كتباً وهلم جرا. وينتج المجرم جرائم. وإذا أمعنا النظر في الصلة بين هذا الفرع الأخير من الإنتاج والمجتمع ككل، فسوف نطرح عنا كثيراً من ضروب التحيز. فالمجرم لا ينتج الجرائم وحسب بل القانون الجنائي، ومعه الأستاذ الجامعي الذي يلقي محاضرات في القانون الجنائي وعلاوة عليها الكتاب الأكيد الذي يطرح فيه هذا الأستاذ الجامعي محاضراته في سوق «السلع» العام... ».

بل إن المجرم ينتج الشرطة برمتها والقضاء الجنائي بأكمله، بحاكميه وقضاته وجلاّديه ومُحلَّفيه، إلخ، وجميع خطوط الأعمال المختلفة هذه، والتي تشكل بالمثل كثيراً من أصناف التقسيم الاجتماعي للعمل، تطور قدرات مختلفة يتمتع بها الروح الإنساني، وتخلق حاجات جديدة وسبلاً جديدة لإرضائها. فقد أدى التعذيب وحده إلى نشوء أشد الاختراعات الميكانيكية براعة، واستخدم كثيراً من الحرفيّين الأفاضل في إنتاج أدواته. والمجرم ينتج انطباعاً، أخلاقياً من ناحية وتراجيدياً من ناحية أخرى، بحسب الحالة، وبذلك يقدم «خدمة» عبر إثارته مشاعر الجمهور الأخلاقية والجمالية. فهو لا ينتج كتباً في القانون الجنائي فحسب، ولا قوانين العقوبات ومعها التشريعات اللازمة في هذا المجال فحسب، بل الفن أيضاً، والآداب الجميلة، والروايات، وحتى التراجيديات، الأمر الذي لا تبيّنه الخطيئة لمولنر واللصوص لشيللر فحسب، بل أيضاً أوديب لسوفكليس وريتشارد الثالث لشكسبير. والمجرم يكسر رتابة الحياة البرجوازية وأمنها اليومي. وهو يبعدها بهذه الطريقة عن الركود، ويولّد ذلك التوتر القلق والخفة التي من دونها لتبلّد حافز التنافس ذاته...

«يمكن أن نبين على نحو مفصل ما يتركه المجرم من آثار ومفاعيل في تطور القدرة الإنتاجية. فهل كانت الأقفال لتبلغ قطّ ما بلغته الآن من درجات الإتقان لو لم يكن هنالك لصوص؟ وهل كانت صناعة الأوراق النقدية لتبلغ ما بلغته اليوم من الكمال لو لم يكن هنالك مزوّرون؟... وإذا ما تركنا عالم الجريمة الخاصة: فهل كانت السوق العالمية لتبرز إلى الوجود قطّ لولا الجريمة الوطنية؟ بل هل كانت لتنشأ الأوطان ذاتها، ألم تكن شجرة الخطيئة في الوقت ذاته شجرة المعرفة منذ أيام آدم؟»

يبقى السؤال الأهم هو ما الصلة بين خطاب ماركس الأدبي، لاسيما الساخر والهجّاء وما أراد أن ينجزه من مهمات نظرية وفكرية؟ سبق لماركس أن قال إنه لو تطابق جوهر الأشياء ومظهرها لانتفى العلم وأصبح مستحيلاً. والأدب عند ماركس، عدا عن كونه إبداعاً وإمتاعاً، هو مثل العلم، وسيلة ندلف بها من المظهر إلى الجوهر، من الفهم الشائع أو ما يدعى خطأ بالحس السليم إلى حقيقة الأشياء، إلى حقيقة أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الماء يتألف من غازين قابلين للاشتعال.

هوامش

ـــــــــــــــ

1.ماركس، رأس المال، المجلد الأول: عملية إنتاج رأس المال، ص 63. لا يتطابق المقبوس الوارد هنا تمام التطابق مع الترجمة في هذا المرجع، حيث يغيّب هذا الأخير «تبدو» و«كأنها» في الجملة الثانية بخلاف الترجمة الإنكليزية.

2.المصدر ذاته، ص 82

3.المصدر ذاته، ص 83

4.المصدر ذاته، ص 104

5.المصدر ذاته

6.المصدر ذاته، ص 106

7.المصدر ذاته، ص 1074. انظر أيضاً: كارل ماركس، نتائج عملية الإنتاج المباشرة (الجزء المجهول من رأس المال)، ترجمة: فالح عبد الجبار (مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي)، ص86

8.ماركس، رأس المال، المجلد الأول: عملية إنتاج رأس المال، ص 297

9.انظر هذا المقبوس والمقبوسات التي تليه المتعلقة بما دعي في الأدبيات الماركسية بـ «دور المجرم في صناعة التاريخ» في فرنسيس وين، رأس المال لكارل ماركس: سيرة، ص 104 - 107

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“الاتحاد” الحيفاوية – 26 آذار 2021

عرض مقالات: