اخر الاخبار

السبب الذي دفعني لكتابة هذه الملاحظات ليس فقط، مواكبتي لنضال الشيوعيين خلال أكثر من نصف قرن والتضحيات الكبيرة التي قدموها في سبيل غدِ أفضل للوطن والمواطنين، بل النقد غير الموضوعي لمسيرة الحزب النضالية من شيوعيين وغيرهم، الذي يركز على السلبيات والأخطاء فقط، بما يعطي انطباعاً بأن تضحيات الشيوعيين واصدقائهم ذهبت هباءً.

فبعد الاستقلال الوطني، الشكلي، تأسست عدة أحزاب للنخب العراقية التي تولت السلطة، بهدف استخدامها، أي الأحزاب، لتحقيق المصالح الخاصة للفئات الحاكمة من كبار ضباط الجيش العثماني السابقين، أغنياء التجار والمرابين، كبار ملاك الأراضي، والبيروقراطية الإدارية العثمانية. وقد خاضت قيادات هذه الأحزاب صراعات لأسباب ذاتية، نتج عنها حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، أدت إلى كثرة تبدل الوزارات.

لقد فرضت الظروف السابقة، ظهور أحزاب جديدة تمثل وتدافع عن المصالح السياسية والاقتصادية للأغلبية من المجتمع العراقي، ممثلة بالفئات الكادحة والفقيرة، إضافة إلى المصالح الوطنية للشعب كتحقيق الاستقلال الوطني الحقيقي. وكان من بينها الحزب الشيوعي العراقي التي تأسس في 1934، الذي شكّل تأسيسه حراكاً سياسياً واجتماعياً جديدا، لم يكن معهوداً في المجتمع، الذي كان الحراك السياسي فيه مقتصراً على النخب الحاكمة التي كانت تتصارع من أجل زيادة نفوذها في السلطة، وليس نتيجة لإختلاف الرؤى حول إدارة الدولة والمجتمع وتقديم ما هو أفضل. وقد تمثل هذا الحراك في بث الوعي لدى المواطنين للدفاع عن مصالحهم الاجتماعية والسياسية، وتحفيزنشاطهم لتنظيم أنفسهم من خلال تشكيل المنظمات المهنية والاجتماعية التي تدافع عن حقوقهم، إضافة لسعيه من أجل بث الوعي بين المواطنين، تحدياً للمفاهيم والأعراف السائدة في المجتمع.

لقد قوبلت مساعي الحزب الشيوعي السابقة بالرفض ومعارضة النخب الحاكمة والفئات الاجتماعية المحافظة، إضافة إلى قوى الهيمنة الخارجية، المتمثلة ببريطانيا التي رأت في الحراك الاجتماعي الذي يقف الحزب الشيوعي وراءه، تهديدا لمصالحها في العراق، فدفعت السلطات الحاكمة إلى اضطهاد منتسبي الحزب، والزج بهم بالمعتقلات والسجون من خلال محاكمات صورية، وقد تصاعد الاضطهاد بعد تطور النشاط السياسي والاجتماعي، فقامت باعدام قادة الحزب، يوسف سلمان يوسف وحسين محمد الشبيبي وزكي بسيم عام 1949.  

إن ما يميز الحزب الشيوعي عن الأحزاب التي تأسست قبله في المجتمع العراقي العديد من السمات منها،

أولا، الانغماس في مختلف النشاطات الاجتماعية والثقافية والسياسية، بمعنى آخر لم يقتصر نشاطه على دراسة المجتمع نظرياً، بل الاهتمام بالنشاط الاجتماعي الذي يربط بين نشر الوعي الاجتماعي/ الطبقي وبين تنظيم الفئات الاجتماعية لتحقيق مصالحها الخاصة والوطنية.

ثانيا، الاستمرارية في النشاط الاجتماعي والسياسي وربط هذا النشاط بالمصالح الخاصة للفئات الاجتماعية وليس بمصالح النخب السياسية، بمعنى استقلالية النشاط وأهدادفه عن النخب وأحزابها السياسية، التي تلجأ إلى تجميد نشاطها خلال احتدام الصراع بين أطرافها أو بينها وبين السلطة.

ثالثاً، ربط النضال من أجل الديمقراطية بتلبية الحقوق الاجتماعية للمواطنين، لذلك عارض الحزب، بشدة مظاهر الديمقراطية الليبرالية التي كانت تركز على بعض الحقوق السياسية ولا تعطي أي اعتبار لتلبية الحقوق الاجتماعية، التي تجعل من الديمقراطية سبيلاً لتلبية مصالح المواطنين وليس خدمة مصالح النخب المتنفذة في المجتمع.

لقد تواصل الحزب الشيوعي في تطوير النشاط السياسي والاجتماعي للمواطن العراقي خلال المراحل المختلفة من تطور الدولة الوطنية، وحقق نتائج ملموسة في بعض الفترات. واعتقد بأن نشاطه في انتفاضة تشرين 2019، تستحق وقفة خاصة، بمناسبة الذكرى التسعين لتأسيس الحزب.

 بعد اسقاط الدكتاتورية في عام 2003، نشط الحزب بفعالية لاعادة بناء الدولة التي اسقطها الاحتلال، على أسس وطنية ديمقراطية وأقرن ذلك بالدفاع عن مصالح المواطنين، من خلال نشاطات متعددة منها:

  • نقد سياسة النخب التي تولت السلطة، وتقديم حلول واقعية لحل المشاكل التي نتجت عن سياسة النظام السابق، والتي تفاقمت بعد الاحتلال ونهج المحاصصة الطائفية القومية التي سار عليه المتنفذون. وقد ساهمت مؤتمرات الحزب الدورية واجتماعات اللجنة المركزية بهذه المهمة، حيث قدمت كثيرا من المقترحات والحلول للمشاكل التي واجهت مسيرة بناء الدولة العراقية بعد الاحتلال.
  • قيام وسائل إعلام الحزب المتعددة بتبني مصالح المواطنين والدفاع عنها وتقديم الحلول المناسبة لمعالجتها، وقد نجحت في ذلك لحد مناسب، رغم قلة الإمكانيات المادية والبشرية، والمحاصرة والتضييق الذي تعرضت له.
  • العمل على تجميع نشاط القوى الوطنية والديمقراطية، لخلق البديل لتجمع المتحاصصين، فكان المبادر والمشارك في كل التحالفات الوطنية التي تكونت. ورغم أنها لم تحقق النتائج المطلوبة، لأسباب عديدة منها ذاتية تتعلق بكيفية تعامل الحزب مع القوى المتحالفة، وطبيعة القوى والشخصيات التي كونت هذه التحالفات، ومنها ما يتعلق بالظروف الموضوعية المرتبطة بالتطور الاجتماعي والسياسي، وسياسة الإقصاء والانفراد والحصار والتضييق الذي انتهجه المتنفذون لتشويه هذه التحالفات والحد من تأثيرها الإيجابي على المواطنين. ورغم السلبيات والأضرار التي لحقت بالحزب  نتيجة اشتراكه بها، إلا انها كانت محاولة جادة لتشكيل بديل وطني للحاكمين ونجحت في زعزعة وحدة التحالف الحاكم وتشديد الضغوط علية للقيام بالاجراءات التي تلبي بعض حقوق المواطنين.

لقد كان لسياسة الحزب ونشاطة المتنوع ضد نظام الفساد والمحاصصة، تأثير بالغ الأهمية على تحفيز نشاط المواطنين، ولم تكن انتفاضة تشرين عام 2019 بعيدة عن الدور الذي قامت به القوى الوطنية والديمقراطية وعلى رأسها الحزب الشيوعي، بفضح منظومة الفساد وكسر حاجز الخوف لدى المواطنين، حيث لم يكن الاشتراك الواسع في انتفاضة تشرين عفوياً، فقد تراكم تأثير نشاط الشيوعيين والوطنيين، الذي بدأ في تظاهرات شباط 2011 ، فأدى إلى تنشيط الفعالية الاجتماعية والسياسية للمواطنين ووصل إلى تهديد حقيقي لسلطة النخب الحاكمة التي أصيبت بالفزع والخوف من سقوط سلطتها نتيجة اوسع انتفاضة شعبية في تاريخ العراق المعاصر. ورغم أن الانتفاضة لم تحقق كامل أهدافها في إزالة نظام الفساد والمحاصصة وذلك لأسباب عديدة تتعلق بطبيعة السلوك السياسي للمواطنين وقدرته على تحقيق أهدافهم والتي أشير إليها بتكثيف شديد، إلا أنها حققت بعض النتائج الإيجابية تمثلت، باسقاط وزارة عادل عبد المهدي، وتشريع قانون عادل نسبياً للانتخابات وتغيير مفوضية الانتخابات.

مستلزمات نجاح السلوك السياسي لتحقيق أهدافه

في البداية أود الإشارة إلى أن السلوك السياسي للمواطنين يختلف عن أنواع السلوك الاخرى، باعتباره يعبر عن التأثير على توجه السلطة السياسية، بشكل عام، وليس التأثير على مجال محدد، ثقافي، مهني، اجتماعي، ترفيهي. ولكي يصل إلى أهدافه، لا بد من بعض المستلزمات الضرورية، منها:

  • ثقافة سياسية في المجتمع، تكونت عبر التنشئة الاجتماعية التاريخية والممارسة الحرة للنشاط السياسي والفكري للمواطنين، وهي جزء من سلوك الأفراد الحياتي، و تتضمن “ القيم والمعتقدات والمواقف المتعلقة بما ينبغي ان تقوم به السلطة، وكيف تقوم به وطبيعة العلاقة بين السلطة والمواطن”.
  • أحزاب سياسية تعبر عن أهداف محددة ومختلفة البرامج السياسية، تحافظ على الاستقلالية التنظيمية لمنظمات المجتمع المدني، من نقابات عمالية ومنظمات مهنية وجماهيرية، كالطلبة والشبيبة والمرأة.
  • وعي وطني، يبتعد عن كافة أشكال التعصب والولاءات الفئوية والطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية، والمحلية/ الإقليمية، لأن ضعف الوعي الوطني، يجعل النشاط السياسي ـ الاجتماعي للمواطنين، موسمي/ مؤقت، ليس له قدرة على الاستمرار. 
  • شعور المواطن بأن نشاطه السياسي سيكون له مردود إيجابي عليه وعلى المجتمع “ المصلحة العامة”.
  • قيادة واعية ذات خبرة سياسية وتنظيمية قادرة على توجيه الفعالية السياسية للمواطنين خلال فترة الاحتجاجات، نحو الغايات التي تخدم المصلحة العامة.
  • توفر الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم على اقتصاد وطني يعتمد على الانتاج بكافة انواعه الصناعي والزراعي والتجاري والخدمي، يوفر الحاجات والخدمات الأساسية للمواطنين. وعلى ضوء هذه المعطيات، يتم تقييم السلوك السياسي ـ الاجتماعي للمواطنين خلال انتفاضة تشرين الشعبية وقدرة فعاليته السياسية على تحقيق الأهداف المنشودة. وبناء على عدم توفر أغلب هذه المستلزمات السابقة في الظروف الملموسة التي جرت بها أحداث الانتفاضة، وأسباب أخرى، تتعلق بطبيعة القوى المحركة للاحتجاجات وأسلوب السلطة في التعامل معها وطبيعة الظروف الإقليمية والدولية، لم تستطع قوى الاحتجاج إحداث تغيير في طبيعة السلطة.

 تكثيفاً، أشير إلى بعض الملاحظات الختامية

 اولاً، إن مسار عملية التغيير يجري بناء على مستوى تطور البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية، وهذا يتطلب ليس فقط اسقاط الأنظمة الإستبداية وإقامة بدائل ديمقراطية بالضرورة، بل وجود قوى وطنية ديمقراطية حقيقية، قادرة على تنشيط الفعالية السياسية والاجتماعية للسير بعملية التغيير نحو آفاق تلبي حقوق المواطنين السياسية والاجتماعية، ومن دون توفر ذلك يمكن أن تؤدي التطورات التي تعقب التغيير إلى عودة الاستبداد بشكل آخر، كأن يكون دينيا سلفيا، أو طائفيا أو ليبراليا يخضع للهيمنة الليبرالية الجديدة في الغرب.

ثانياً،عمل الحزب على تنشيط دور القوى اليسارية والديمقراطية للمساهمة في بناء الدولة العراقية بعد 2003، ونشط في كل تحالفات التي تشكلت، ورغم ان هذه التحالفات لم تستطع تحقيق النجاح، إلا انها كانت محاولة لتقديم بديل لتكتل النخب الحاكمة، يمكن ان تتراكم تأثيراته الإيجابية على تحفيز الفعالية السياسية للمواطنين لاحقاً.

ثالثاً، من أهم دروس انتفاضة تشرين، أن  التغيير لكي يتحقق يحتاج ليس إلى فعالية المواطنين فقط، بل إلى  قيادة واعية لها تجربة بالعمل السياسي والاجتماعي، قادرة على توجيه السلوك السياسي نحو الغايات التي تصب في المصلحة العامة للمجتمع، وذلك من أجل أن:

  • لا تخضع التحركات الجماهيرية للنزعات الفردية ولفكر وشعارات التيار الشعبوي، او تبتعد عن الوسائل السلمية، او ينجح البعض بابعاد القوى الديمقراطية وعلى رأسها الحزب الشيوعي عن لعب دور فاعل في توجيه نشاطات الانتفاضة.
  • لا تنجح سياسة الترويض التي تنتهجتها النخب الحاكمة، التي تطلق الوعود باصلاح الأخطاء السابقة، وتقدم الإغراءات كحصول بعض فئات المحتجين على وظائف وإعانات مادية، وتقديم وجوه جديدة للحكومة من خارج النخب الحاكمة، ولكنها بصلاحيات محدودة (إدارة مؤقتة لمؤسسات الدولة واجراء انتخابات جديدة).
عرض مقالات: