اخر الاخبار

في إحدى اللقاءات الصحفية معي، كان السؤال الأوّل الذي سئلت به: كيف أصبحت ناقدًا؟، قلت في إجابتي: هل يكفي أن أقول لك:أنّ انتمائي المبكر للحزب الشيوعي جعلني ناقدًا؟ ولكن بالرغم من صواب تصوري، فجوابي لايكفي لسؤالك، فالأمر ليس بهذه البساطة، ولكن ثمة شرط أساسي  على الناقد أن يتوفر عليه، وهو أنّ كل فكر لايقوم على السؤال، فكر يعوزه النقد، إنّ النقد طريقة لفهم ما نعيشه ونفكر فيه، ونعمل من أجله، النقد يكشف لك كيف يفكر الآخرون أيضًافاللفكر تاريخ،وعلى الناقد ان لايبدأ من اية بداية بل بما انتهى إليه السؤال، ويبقى الواقع مستمرًا في انتاج الأسئلة ما دام هناك مشكلات،ومادام هناك وعي تاريخي بها.

استدرك المحاور ليقول: هل الواقع ينتج الأسئلة؟أم نحن ننتج الأسئلة عن الواقع؟.

من هذه النقطة التي تبدو مبهمة، سيدور تصورنا عمن يبتدئ بالسؤال، الناقد أم الواقع؟ ربما لا تقنع الطريقة التي نفهم بها واقعنا، عندما نمر بتجربة ما فيه، دون أن نحضر معنا تجارب الآخرين، فصياغة السؤال تتم أوّلًا عندما نكشف أنّ الواقع بحاجة إلى التغيير. إنّ حياتنا ليست او تجربتك فقط فنحن لا نمثل تجربة مكتملة عن واقع ما، دون أن يكون ثمة مجموعة من الناس تشاركنا المشكلة نفسها. وإذا ما فهمنا أنّ التجربة الذاتية ،مهما كانت عميقة، تبقى فردية، ما لم يكن من يشاركك أبعادها أو ظلالها.

قال إذن جوابك الضمني لسؤالي هو أنّ اية تجربة لا تكون جزئية أو فردية، ما لم يكن لها أبعاد اجتماعية، وفيها ناس مشتركون، ولكن تدوير المشكلة ستجعلهم ينتبهون إلى أنهم أيضًا قد مروا بها؟

 هذه أولى الخطوات التي تدفعنا أن نكون نقادًا، ليس شرطًا أن نكتب عن ذلك، ولكن الشرط أن نعي أنّنا في مشكل ما، الوعي بالظاهرة هو مجموع ما يعانيه الناس من اشكالية عدم فهمهم لوجود مشكلة ما يشتركون بها مع غيرهم، ولكنهم لن يستطيوا حلها مادمت المشكلة لها أبعاد لم تتضح جليًا في محيط وجودها.

 قال محدثي أذن ثمة قوى أخرى غير مرئية، أوغيرمعروفة تساهم في تعميق الاسئلة عن مشكلات الواقع، ولذلك عندما يفكر فرد منا وحده بحلها، لن يحصل على نتيجة، وعليه أن يستدعي الآخرون أولًا خاصة أولئك الذي شاركوا في وعي المشكلة ذاتها.

قال: ومع ذلك من يصنع الأجوبة؟

أولى أصول المعرفة بالمشكلة أن لا تكون معرفتنا جزئية، بل أقرب إلى الكلية، وعندما لا نتمكن من ذلك نستعين بغيرنا من التجارب السابقة لفهم معنى أن تكون المعرفة شاملة وكلية، فالمعرفة الكلية بالمشكلة يسهل عملية نضوج النقد، فمشكلة مثل تخلف الزراعة أو الصناعة أو الكهرباء أو الصحة أو التعليم، يجب أن تكون المعرفة بها شاملة ولكل جزئياتها، وأن تكون دقيقة ومتمكنة وواضحة الأسباب،وبغيدة عن أي غرض شخصي. وأن ندرك أن هذه المشكلة تتوسط بين الناس وليست خاصة بفئة اجتماعية دون أخرى، وأنّها من الصعوبة حلها إذا لم  نتعرف على كل جوانبها، كما أنّ وجود وفرة مالية لحلول المشكلات لا تكفي، إنّ معرفة ما يحيط بالمشكلة يعني شمول معرفتنا لجذورها ومعوقاتها، فالكهرباء مثلًا ليست قضية معزولة عمّا يحيط بها من مسؤولين وخبرات واليات عمل ونوايا لاصلاح خللها، ,سياسة لايديولوجيا مهيمنة بحيث تعطل الحلول من اجل المولادات التي تستنزف مدخولات العيش.  فالنقد يقوم على وضوح كامل بالمشكلة وبما يحيط بها، دون المعرفة الشاملة والدقيقة يسهل على الآخر مالك هذه المؤسسات أن يخطأنا أو يستغل جهلنا بجوانب منها، فالرؤية الماركسية لأية ظاهرة تتطلب أوّل الأمر الإحاطة بكامل الظروف والخصائص للظاهرة. وأن ذلك يبعدنا عن أن نكون مقصرين وغير واعين وغير نقديين، وعلينا أن ننتبه نقديًا إنّ أية مشكلة مثل الكهرباء والجفاف والتصحر لا تقف عند حد معين، أو زمن حدد، إنّها ظاهرة تمتد وتتطور وتنمو، كلما تأخر علاجها. فبعض العلاج أحيانًا يتم بأصلاح المشكلة مؤقتا، أومعالجتها عند حد معين، وهذا لايعني انتهائها، لأن المعالجات الجزئية هي ترميم للعجز والخلل، في حين أنّ العلاج يجب أن يكون جذريًا، وعلى مراحل مترابطة، وأن يبقى مراقبًا ومتابعًا لأي خلل، فأية ظاهرة أومشكلة، هي بمثابة جسد مريض يحتاج إلى الصحة الدائمة، ليس العلاج لمرة واحدة بل باستمراريتة، ومرقبته، وهذا يعني أنّ النقد لا يتوقف عندما تنجز الأعمال، بل يكشف النقد عن أسئلة جديدة عندما تمر المشكلة بمراحل جديدة. لم تكن ظاهرة شح المياه أو شح الخضار، هي خلل ما في المعامل، وإنّما في سياسة التفكير بماهية الصناعات القائمة على الزراعة والصناعة، مشفوعة بحاجات اجتماعية وخبرة. وهذا يعني أن الكهرباء ليست من أجل الاضاءة او التدفئة فقط، بل من أجل تنظيم متقن للحياة اليومية للناس، بما فيها حاجاتهم الشخصية، ٌنّ شح المياه ليس من أجل الشرب أوالوضوء، إنّما هناك مؤسسات اقتصادية واجتماعية لا تعمل دون كهرباء وصحة وتعليم وماء واقتصاد وادارة ورأسمال وخبرات. هذه أوليات تكوين الأسئلة، والأمر لا يتوقف عند الأوليات، بل علينا كنقاد متابعة الموضوع ونقله من ميادينه الأولية إلى الممارسة الاجتماعية. علينا أن ننظر الى المشكلة في تطورها، وفي نموها وفي زيادة عدد السكان والأبنية والمرافق الأخرى. فالأمراض تقابلها الصحة،  وشح الماء تقابله الوفرة، ولذلك لن تقف هذه الأمور عند حدّ أو وقت أومكان، بل تتطور الظاهرة كلما تطورت البيئة وانشأت المعامل وانتظم البناء، فأي وعي أو نقد بمشكلة ما، يبقى دائمًا بحاجة الى التطور والنمو، النقد جزء من نمو المعرفة وليس مجرد أقول معارضة، إنّه ذلك المبدأ العملي الذي يرافق نمو الظاهرة نفسها، وعليه يبقى الماركسي حالمًا من خلال الواقع وليس من خلال اليوتوبيا والفنطازيا والأقول القديمة.

ما سبق الحديث هما مرحلتان من وعي ظاهرة النقد تبدو انهما متلازمتان/ وعي الظاهرة وتشخيص عللها، وثمة مرحلة ثالثة يتطور بها الوعي من حالته التبسيطية إلى حالته الفلسفية والتجريبية،ويتم فيها تحويل الوعي بالظاهرة إلى مبدأ نقدي وهي أن يكون تشخيصنا للمشكلة شموليًا، بمعنى أن ايةمشكلة لن تكون أحادية في مركباتها،بل ثمة مركبات لها قد تكون غير مرئية،فالكهرباء لا تعمل دون اسلاك وتقنية وهندسةوهذا يعني فهم معنى التعليم والدرس والقدرة على الربط بين اجزء الظاهرة، فالمنطق الجدلي يتطلب أن تكون التجربة التي نفكر بها لحل المشكلات إنسانية وأنها لا تقبل التجزئة، فمثلا ليست مشكل الزراعة ليس هي مجرد عدم وجود بذور فقط،او عدم استصلاح الأرض، بل هي مشكلة عميقة متعلقة بالنظام السياسي وبالادارة وبالتعليم والخبرة والأدوات الجديدة والحاجات الاجتماعية وارتباطها بصناعات اخرة وبدخل البلدإلخ. الشمولية المعنية هنا، أن نلّم بأطراف الموضوع العملية، وأن يكون حلها من أجل مصلحة كل الناس، وليس مصلحة أفراد أو أوقات أوأمكنة معينة، فالتجربة الإنسانية لمفهوم النقد أن يكون الحل معيارًا للصدق وأن يكون الموضوع مرتبطًا بما يحتاجه الإنسان.

وفي المرحلة الرابعة من تطور النقد، أنّنا نخضع لمنطق جدلي وليس لأي منطق آخر، وهو أن تطزون المشكلة التي نعالجها حقيقية وليست افتراضية أو مفتعلة، وأنها مدونة ولها تاريخ، وأنها تابعة لمؤسسة، وأن لها دورًا عمليًا  في حياة الناس، لذلك فكل ما يتعلق بها هو حقيقي، وليس غيبيًا أو افتراضيًا أو تأمليًا، إنّ المشكلة كائنة على الأرض، وليس في السماء أو في المخيلة أومستعارة من بلد آخر، فكل الحقائق التي يسعى الماركسي لحلها ليست مجردة، بل هي عينية، قائمة في الواقع، وأن لها امتدادات تاريخية واجتماعية ونفسية.

هل ينطبق ذلك على نقد الأدب؟

الكثير من شروط الوعي بالظواهر يمكنها أن تعمم،فالحديث عن الرواية والشعروالموسيقة والتشكيل والمسرح، لايكون مقتصرا عليها، بمعزل عن جاجات المجتمع إليها ودون أن يكون الشعر والرواية والفنون الأخرى جزءً من الظواهر الاجتماعية، ولهذا الموضوع حديث آخر.

عرض مقالات: