اخر الاخبار

منذ عقود عديدة والنقاش جار بين العديد من الباحثين والكتاب حول ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة، و ينطلق العديد منهم من مواقف فكرية وسياسية مسبقة لإطلاق تسمية الانقلاب على الرابع عشر من تموز معتبرا إياها انقلابا فوقيا على الشرعية الدستورية الملكية، فيما يراها آخرون انها لن ترتقي إلى معايير الثورة وفق مفاهيم علم الاجتماع البرجوازي، وبين هذا وذاك لابد لنا من قراءة ثورة الرابع عشر من تموز وفق المنهج الماركسي لمفهوم الثورة وبروح الديالكتيك المادي المبني على الظروف الزمكانية للأحداث بعيدا عن التقييم المسبق المبني على المواقف الايديولوجية.

إن حركة الضباط الاحرار التي احدثت التغيير لم تكن بعيدة عن الحاضنة السياسية لجبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت عام 1957 والذي كان الحزب الشيوعي العراقي أحد أعمدتها الاساسيين بالإضافة إلى قوى وطنية وسياسية مختلفة لها علاقاتها الحزبية مع الضباط الاحرار، وكانت الحاضنة الاجتماعية لهذه الثورة هم العمال والفلاحون والشغيلة والكادحون والمثقفون والعديد من الفئات التي تنتمي للطبقة الوسطى الذين هم أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير الجذري الذي احدثته الثورة عبر الاطاحة بالنظام السياسي الملكي وقواه الاجتماعية المتمثلة في البرجوازية الكمبرادورية والإقطاعيين وشبه الاقطاعيين وفئة كبار الموظفين البيروقراطيين الذين تربطهم وشائج قوية بالشركات الاحتكارية النفطية العاملة في العراق.

لقد وصل النظام الملكي إلى طريق مسدود ولم يعد ممكنا استمرار الحكم في الطريقة ذاتها التي تمنح الاحتكارات النفطية أمكانية التدخل المباشر وغير المباشر في شؤون البلاد واستغلال الثروات النفطية أبشع استغلال ومع الثراء الفاحش للطبقات الحاكمة على حساب الفقر المدقع للشغيلة والكادحين.

إن التحول الجدري الذي أحدثته الثورة يشكل انتقالا من الاقتصادي الزراعي الرعوي إلى اقتصاد سوق عبر العديد من الاجراءات والقوانين التي ساهمت في تهديم أسس الاقتصاد الزراعي الرعوي والانتقال إلى علاقات اجتماعية جديدة في أطار اقتصاد السوق الحر الرأسمالي.

لقد جاء هذا التحرك العسكري باعتباره الاداة الرئيسية للتغيير كنتيجة للتراكم التاريخي لنضال الشعب العراقي منذ ثورة 1920 ومرورا في انتفاضة سوق الشيوخ 1935 والوثبة المجيدة 1948 وانتفاضة تشرين 1952 والتصدي للعدوان الثلاثي عام 1956 بالإضافة إلى مئات المظاهرات والإضرابات والمسيرات والاحتجاجات الجماهيرية التي قدم فيها مئات الشهداء والمعتقلين والمفصولين والمطاردين من مختلف فئات الشعب.

إن مشاركة الجيش في إحداث تغيير جذري في الحياة السياسية لم تكن ظاهرة عراقية بل هي ظاهرة على صعيد العالم العربي كما في مصر والسودان وسوريا وفي بلدان العالم الثالث في إندونيسيا، لأن المؤسسة العسكرية هي الاكثر تنظيما مقارنة مع الاحزاب والمنظمات النقابية والمهنية الحديثة العهد والفتية والموسمية في النشاط والعمل بالإضافة إلى غياب الحياة الديمقراطية الحقيقية التي تساهم في التبادل السلمي للسلطة وأحداث البديل الديمقراطي المنشود.

لقد حققت الثورة الكثير في إطارها الزمني القصير على الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكنها فشلت في التأسيس لنظام مؤسساتي ديمقراطي يضمن التداول السلمي للسلطة وعودة الجيش إلى الثكنات لممارسة مهامه الرئيسية في الدفاع عن سلامة أراضي وحدود الدولة العراقية، بل على العكس من ذلك تفرد الزعيم قاسم في السلطة وحارب القوى الوطنية الديمقراطية الحاضنة السياسية والاجتماعية للثورة غير مبال في المخاطر المحدقة التي احاطت في الثورة ومنها تسلل العديد من رجالات الحكم البائد إلى الاجهزة الامنية والحكومية ولعبهم ادوارا تخريبية في التشجيع على الفساد والرشوة والتحريض على الحراب السياسي والاجتماعي، و اعادة اصطفاف القوى الاجتماعية التي تضررت مصالحها من الثورة للعمل من جديد مع الشركات النفطية الاحتكارية في الاعداد للانقلاب على الثورة، بالإضافة إلى التنافس الحاد بين الضباط الاحرار على السلطة ومركز القرار الذي كانت بدايته انقلاب عبد الوهاب الشواف في اذار 1959،و الصراع السياسي الناشب بين القوى الوطنية والديمقراطية والتصادم والصراع بين الشيوعيين والبعثيين في الشارع السياسي، و شن الحرب على الشعب الكردي في عام 1961 وأثاره البالغة على الوحدة الوطنية. لقد ساهمت كل هذه العوامل في إجهاض الثورة وحدوث انقلاب 8 شباط 1963 الدموي الفاشي الذي قال عنه مدبريه إنهم اتوا بعربة قطار أمريكية.

عرض مقالات: