اخر الاخبار

عندما تعايش إنسانًا مركبًا من وعي التجربة ومنحدرًا من بيئة ثقافية، ومتعلمًا وخبيرًا بالممارسة الثقافية، وعارفًا بتنوع مصادر المعرفة، وماركسيًا وتجريبيًا وعمليًا، مثل عبد الرزاق الصافي، لا يكون حديثك عنه مكتملًا دون أن تضعه بكلية معارفه على طاولة النقد. هناك حقيقة ربما لا يعرفها الكثير منا، هي أنّ الفكر الماركسي ليس فكر أشخاص عملوا عملًا استثنائيًا، بل هو منهج لبنية حياتية قد نجدها في ظاهرة دون اشخاص وقد لا توفيها مجموعات من الأشخاص. هذه الظاهرة التي نعيش ابعادها هي اجتماعية، وإنسانية وثقافية، ولكن الوعي بها يحتاج إلى منهج عملي يركّب من كل ابعادها الطبيعية والاجتماعية والنفسية تشكيلًا معينًا يمكنه أن يكون نموذجًا للدراسة...

عبد الرزاق الصافي ليس مثقفًا فقط، ولا هو ماركسي بالولادة، إنما هو تكوين من وعي بأن المشكلات ليست فردية وأن حلولها ليست ذاتية. وأن أية ظاهرة يجب أن تتعمق بابعادها كي تفهمها، وهذا الوعي تلمسته شخصيًا من خلال العمل مع الاستاذ عبد الرزاق الصافي، في مجلة الثقافة الجديدة وفي طريق الشعب، وفي المعايشات اليومية التي تولدها العلاقات بين رئيس التحرير والعاملين في المؤسسات الثقافية. وأوّل ما لمسته هو انسانيته وتصرفاته العادية ومبدأيته دون أن يشعرك أنّه عضو لجنة مركزية أو في قيادة الحزب. واستمر هذا التشكيل المعرفي عندما حتى حين لم يبق في قيادة الحزب، أقول أنّ عبد الرزاق الصافي ليس شخصانيا، بل هو ظاهرة حزبية تنظيمية، خرجت من رحم الممارسة التي يحترم فيها حتى من يخلفه الرأي. ودائمًا يقول لنا: أن الحزب ليس اشخاصًا، نتفق معهم أو نختلف، بل هو مؤسسة اجتماعية فكرية ذات منهج،والانتماء إليها اختياري وليس شخصاني.

من المعرفة العامة يمكن أن تدخل الى عقل وتفكير عبد الرزاق الصافي، كنموذج للمفكرين الممارسين، وليس المفكرين التجريديين الذي يمتهنون الكلام على توصيف أفلاطون للسفسطائيين. من السهولة أن تعيد تصورك عن الرجل الذي زاملته لسنوات العمل في “الثقافة الجديدة” ومن ثم في جريدة “طريق الشعب” لثماني سنوات متصلة، ثم لم ينقطع عن زيارتي في دمشق، وعمان، وهولندا ولندن، ولم ينقطع سؤالي الدائم له عمّا وصل إليه التنظيم والعمل في ظل الظروف الدراماتيكية التي مر العراق بها بعد عام 1968 وما تلاه. كان الرجل تيار تجربة لم تتوقف عند جرف دون آخر ولم تمنعه الحشائش الضارة - وما اكثرها- عن مواصلة مسيرته ورؤيته. كان معلمًا واستاذًا وقائدًا مناضلًا، وكان أيضًا مرحًا فكها وصاحب نكتة وطرفة وسخرية رمزية، دون أن يختل له رأي أو يتبدل له موقف. وكان فوق هذا وذاك، لا يتكبر على أصغر العاملين معه، كما لايدعي بغير ما ينتجه بنفسه.

كل ما كان يفعله عبد الرزاق الصافي هو الوضوح، سواء في كتاباته وترجماته خاصة الكتب الماركسية، او في عمله في الثقافة الجديدة وطريق الشعب. تعلمنا منه كيف يكون الوضوح سلاحا معرفيا لمواجهة الآخرين. ومن عمل معه يجد أن مبدأ البساطة يقترن بالوضوح، فكم من مرة رأيته يكنس مقر الثقافة الجديدة، ويمسح طاولات العاملين وغرفة  هيئة التحرير،ومرة رأيته وانا مستغرب يسلّك مجاري المياه والتواليت في طابق الثقافة الجديدة، سلوك من يمتلك الحق في ان يقول للآخرين أنكم كذا وكذا. فالوضوح هو ان تمترس الفعل الذي يلغي اي تمييز لك مع الآخر.

قبل ان أحط رحالي في بغداد عام 1970، كنت أزور بغداد مرات عديدة، ويوم انتجنا اوبريت بيادر خير، وطلبت السلطة الثقافية ان نعرضه في بغداد، جئت استفسر من الرفيق الصافي عن امكانية ان نقدم عملًا لسلطة قتلت الشيوعيين وهجرتهم وسجنتهم. قال لابد للفن أن يستمر، هذه فرصة لأن يتعرف الآخرون على اعمالكم الفنية، فلا تحرموا بقية العاملين معكم من الانتشار وربما الفائدة، وهكذا كان: عرض الأوبريت وشاهده معنا واثنى على العمل وطلب مواصلة ما ابتدأنا.

عبد الرزاق الصافي رجل ثقافة قبل أن يكون رجل سياسة، فالثقافة عنده كما توحي مذكراته مواقف في التحقيق والسجون والمظاهرات والتحقيقات، هي مواقف منهجية ممتدة في اعتقالاته وفي عمله الثقافي والصحفي، فالمثقف لا يكون بوجهين، وجه يعمل برؤية ماركسية ووجه يعمل بنفعية براجماتية، من عايش الصافي في مؤسسات الحزب الثقافية ويجده واحدًا في كل مواقفه. عندما نجتمع كان يقول: تجاربنا عديدة ومن عاش تجربة مرّة سيتذوق الأمّر منها، وليس بصعوبة من يعيشها أول مرة، ويعني ذلك أن الخبرة أساسية في كل عمل. والخبرة تعني التجربة، ومنها تجديد الوعي وتجاوز الاخطاء. وفي كل اجتماع كان يحث العاملين على القراءة وتجديد المعرفة. وكان يضع في حسابه أنّه يبني جيلًا من العاملين صحفيين ومثقفين، ليشكلوا نواة لمجموعات ثقافية جديدة. والغريب أنّه، وبالرغم من الفارق بين ثقافاتنا، كان يستمع لأي مقترح ويناقشه بعلمية. فهو لا يفرض رأيًا، ولا يعتمد الرأي دون مناقشة، وهذا ما جعله منفتحًا على المثقفين الشباب ومتابعًا لأنشطتهم وأعمالهم. ويوم جعل من جدران بناء طريق الشعب معرضًا لفنانين تشكيليين، عرفنا أن الثقافة لا تحتاج إلا إلى إدارة عقلانية توفر من الأشياء البسيطة ما يجعلها مؤثرة.

اذكر انه كلفني شخصيًا أن أكون ممثلًا لجريدة طريق الشعب بتقديم باقة ورد لكل عمل مسرحي يعرض على مسارح بغداد، مهما كان نوع واتجاهات الفرقة، شرط أن يكون العمل متقنًا فنيًا، وفيه رؤية جمالية، وبالفعل كنت أحضر كل العروض- وهي طريقتي الخاصة في الكتابة النقدية قبل التكليف- لمشاهدة العروض ومن ثم تقديم باقة الورد باسم طريق الشعب لمخرج العرض المسرحي، وبهذه الطريقة كانت الجريدة ليست حاضرة فقط،بل كانت مسؤولة عن إشاعة الفنون الجميلة.

عندما يفترش العاملون حديقة البناية لتناول الغداء، كان الصافي يقف معنا بالصف ليأخذ غداءه، ابدًا لم ينزوِ ولم يبتعد عن نبض وحياة العاملين اليومية. وفي آخر أيام تواجدنا في الجريدة والدخان يتصاعد من براميل الاوراق المحترقة، كان عبد الرزاق يعرض نفسه في كل لحظة للاعتقال، انني أتذكر كنت معه في يوم او يومين الى ان قال لي ابتعد واسلك طريقك للاختفاء.

عندما التقيته في لندن بعد أن أصبح خارج هيئات الحزب العليا، وكان قد اشتد المرض عليه، اعدنا بعض ما كان من مواقف، ويوم دعوته وزوجته لحضور فعاليات مؤسسة أكد في هولندا، حيث قدمت زوجته محاضرة ورسوماً صورتها على جدران محطات المترو في لندن، تجولنا في لاهاي معيدين تلك السنوات التي كانت نبضًا لا يهدأ في حياة كل من عمل في مؤسسات الحزب الثقافية.

عرض مقالات: