كان الجميع في حالة فضولٍ وترقّبٍ وانتظارٍ لمعرفة ما أصاب الباب الخشبي العتيق منذ الصباح المدلهم على غير عادة المدينة التي لم تنكث بعد عن ثوبها غبار الحرب. بدأوا  بسماع أصواتٍ تخرج مسرعةً مثل همهمات امرأةٍ عجوزٍ سقطت أسنانها، فتنابزوا من أن أمرًا ما قد حصل، لا يقل عن كونه جللًا، استرعت أنفارًا منهم ليتجمّعوا على مبعدة شارعٍ عتيق، للكشف عن المستور بطريقة متوجّسة. كانت عيونهم تبحلق فيما يمنحه الباب من فتحةٍ طوليةٍ، فلا يبصروا غير السواد، لذا كلّما حاول بعضهم الاقتراب من الباب لمسافةٍ قصيرة، يصدر صوتٌ يخرج من الباب، يتبعه صريرٌ يعادل عشرات الأبواب المتآكلة، فيعود الصدى مرتدًا من أوديةٍ سحيقةٍ أو سراديبَ عميقةٍ أو حتى كهوفٍ يابسة. فيصيبهم الخوف وترتجف أقدامهم، ثم يرونه ينغلق بقوّةٍ لينفتح من جديد بردّة فعلٍ أقلّ حدّة،، تتبعه النافذة المنخورة الخشب، بصريرٍ وصوتٍ وانغلاقٍ وانفتاح، فيتراجع الكثير بضع خطواتٍ مبتعدين عن الرصيف الملاصق للباب، متجنّبين إصرار الباب على فتح نفسه والانغلاق كلّما أراد أحدهم التقدّم خطوةً زائدةً الى الأمام.

صاح بهم رجلٌ لا يعرفون من أيّ موقعٍ يتحدّث معهم، أن تراجعوا الى الخلف والتجمّع خلف شجرةٍ وحيدةٍ وسط حديقةٍ يابسة، ظلّوا ينظرون لبعضهم نظراتٍ لا تحمل سوى الغرابة والدهشة والخوف، أراد أحدهم توجيه سؤالٍ لمن يقف الى جواره، اصفرّ وجهه وارتعشت شفتاه ولم تخرج الكلمات، بلع ريقه لحظة انفتاح الباب دفعةً واحدةً، وشاهدوا كتلةً سوداءَ تخرج من جوف المكان، تبعتها ريحٌ قويّةٌ محمّلةً بتلك الهمامات العجوزية التي تحولت الى صراخٍ غير مفهومٍ. يبتعد قسم منهم الى حيث لا يدري، ويلتصق أخرون ببعضهم، ويسرع الآباء لاحتضان الأبناء والأمهات يضعن البنات تحت عباءاتهن، وكل يريد الابتعاد عمن يجاوره، تتشكّل بما يشبه الدوائر، تعطي ظهرها للريح، ريثما تمرّ من حولهم ثم تصعد الى الأعلى. ليسمعوا صوت اصطفاق الباب وعودة الصدى مرتطمًا في كلّ جدران الأبنية.

تقدّم رجلٌ آخر، كان يضع على رأسه يشماغًا يلفّ نهايته حول رقبته بطريقةِ من يقف في باب مأتمٍ للتعبير عن الحزن. وطلب منهم أن يبتعدوا ويتجهوا الى الجهة الثانية من الحديقة، فالشجرة حامية الجميع.. تحرّكت دوائر العوائل كلّ دائرةٍ على حدة، ترتطم ببعضها، مثل حركات أجسامٍ مجهرية. يلتفتون الى مصدر الباب، يسحبهم فضولهم الراجف، يتعارك مع خوفهم المتأصّل في العقول. وقبل الوصول الى منتصف الحديقة اليابسة انفتح الباب من جديد، كأن عشرة أيادٍ سحبت ظلفتيه، ومثله فعلت النافذة الصغيرة، خرجت من جوفها ريحٌ قويةٌ حملت ذراتٍ صغيرةً بلونٍ رماديّ مائلٍ الى السواد، كأنها حشر حشراتٍ لا تهدأ من الدوران حول نفسها، ورأوا حركة الريح تتقدّم الى الحديقة، تلتفّ حول الشجرة، تأخذ منها الأغصان الصغيرة، ترميها مثل سهامٍ ناتئةٍ وتسقط حول الجمع مشكلةً سورًا من أشواكٍ.

 تنبه شابٌ ملتحٍ بوجهٍ دائري، يضع في بنصره الأيمن محبسًا شذريًا، وقد طوّق معصمه بمسبحةٍ سوداء الخرز، كان يرى أغصان الأشواك أشبه بنارٍ ملتهبةٍ تصعد ألسنتها الى الأعلى. صرخ دون إرادة منه “احذروا النار”.

ابتعدوا جميعًا بهلعٍ غير مسبوق، سحق بعضهم أقدام بعضٍ، وارتطمت الظهور بالبطون. وندّت من الأفواه أصوات صرير الأمعاء، حينها نفخوا من أفواههم، لتخرج ريحٌ تضيع ببقايا ريح الباب العاصفة. لكن شابًا كان يرتدي تيشرتًا كثير الألوان، تتدلّى من جيدهِ قلادةٌ فضيّة، وشعره صاعد الأعلى، كثير الدهان، وقف مثل متمرّدٍ عنيدٍ، يعدّل من خصلات شعره فوق جبينه، صاح بصوت أراده ان يحمل نبرةً محملّةً بالهدوء والاعتراض “احذروا الخزعبلات...”

ضربوا راحات أيديهم ببعضها تأسّفًا أو ندمًا وتأييدًا، فيما كان بعضهم قد عارضه لأنه لا يؤمن بالقدر.. وجد في عيونهم المفتوحة رسالةَ تهديدٍ ووعيد.. فأراد تحويل المسار عنه “إذن فسّروا لي لماذا أنتم خائفون من شيءٍ لا تعرفونه؟” خرج سؤاله مثل نارٍ انعكست على الباب. صاحت امرأة عجوز لم تزل تحتفظ بثلاثة أسنان في أعلى فكّها، خرج لسناها من أعلى الشفة السفلة “هذا المكان مسكون، كان مغلقًا طوال عقود، فمن أيقظ ما خلف الباب من السبات؟”

اشتعلت نار هائجة لا تعرف لها ألوان. صعدت الى الأعلى على شكلِ لسان، ثم على مستوى الجدار تحرّكت بخطّ مستقيمٍ لتدخل من النافذة التي شرعت وكأنها فم مفتوح. تقدّم رجلٌ يضع على رأسه يشماغا أبيض بلا عقال وقد تدلّى على كتفيه، بانَ على وجهه الورع والتقوى، صاح “ الله أكبر.. الله أكبر.. أشهد ألّا إله إلا الله” ووجّه الى شطر الكعبة. ثم كبّر من جديد، وصاح “الله أكبر”. انقسم الناس الى طوائف وتجمعات،. بعضهم اصطف خلف الرجل الورع، والبعض تقدم ليتابع عن قرب، وبعضهم جلس على حافّة الحديقة منتظرًا ما قد يفضي له الباب، الذي انفتح بقوّة، وتحوّل على فمِ حوتٍ كبيرٍ، قذف أحشائه على شكل حشراتٍ وبقايا جدرانٍ، وأوراقٍ صغيرة، وشجرٍ يابس، وطيورٍ ميّتة، وأجزاء حيواناتٍ نافقة، وألسنٍ طويلة، وملابسٍ متهرّئةٍ متنوّعةٍ بألوانٍ باهتة. أشياء غريبة جعلت الواقفين خارج صف الرجل الوقور تتراجع الى الوراء وتصطدم بالمصلّين هاربين، وهم يرون كلّ ما خرج من جوف الباب على شكل سحابةٍ فوق الرؤوس، حتى لكأن الشمس غابت، وثمة عاصفة تلوّح في الأفق. صاح الرجل الوقور “ الله أكبر “ وصاح الجميع “ الله أكبر” من الخوف.

لم تمضِ لحظات حتى رأوا اثرًا لسحابةٍ من ترابٍ تبتعد عنهم باتجاه الباب، لتتوارى بغفلة عين، دون أن يتأكّدوا إن كانت قد دخلت من الباب، أم أنها اختفت بفعل الصدمة.

صاح شاب لا يعرفون ملامحه، ان انتبهوا. لم يكمل جملته حتى اصطفق الباب بقوّة، وسمعوا منه صوتًا دار حول نفسه، وعاد بصدى كاد يقلع الشجرة، فلم يتبيّن أحد ما كان يحمله من حروفٍ أو كلماتٍ أو مجرّد زعيقٍ احتجاج.. في تلك اللحظة رأوا رجلًا طويلًا، يتحرّك باستقامة ظهر، ممسكًا بعصا على شكل رمحٍ مصنوعٍ من شجرة أرز. انتبهوا له مع تراجع حدّة الصوت. كان صوت  ضربات العصا على بلاطات رخامية يرنّ في الآذان له قرقعة صوت برق ورعد،  كانت صدورهم وأفكارهم وخطواتهم وجلة مرتعشة خائفة، ينظرون لبعضهم لعلّ أحدًا يعرفه. رفع رجلٌ تجاوز الستين من العمر، يده اليمنى ملوحًا للانتباه، ممسكًا بيده اليسرى كتاب (نهاية العالم).  تقدم نحو الرجل الطويل الذي كاد يصل الى لب الشجرة العتيقة، كان يلوّح بعصاه مرحّبًا، ومعلنًا عن حضوره، صار في منتصف الجمع. صاح الرجل السّتيني “ إنه الملاك الذي سيحمل الأثر من جلجامش حتى الآن” لم يكمل نداءه وتقديمه، سقط الكتاب من وسط صدره لحظة سماعه لأحد الشباب، كان الجميع يعرفونه أميًّا لا يقرأ ولا يحسن الحساب.. بان على وجهه التذمر حدّ الشتيمة من كلّ شيء وعن أيّ شيء, أطلق صوت سخرية من فمه، تبعها رذاذ من لعاب حار. هربت كلّ الأشياء الطائرة، موليّةً وجهها صوب الباب، الذي سمعه الجميع يغلق ظلفتيه بقوّة غاضبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الفائز بجائزة الابداع لعام 2023 عن روايته “باب الدروازة” والصادرة عن دار الشؤون الثقافية- بغداد.

عرض مقالات: