كلما قرأت عملاً روائياً جديداً  لكاتب معروف ، أزددتُ يقيناً بوجهة نظري التي تبلورت في مطلع الثمانينات حول البنية المركزية او الثيمة الام، التي تستقطب في طريقها عدداً مماثلاً من البنى أو الثيمات، بحيث نستطيع تحديد سمات مشتركة بينها، خصوصاً، عندما يكون المؤلف، الذي أنتج هذهِ الأفكار او الثيمات مؤلف واحد، ان هذا الاستقطاب او مناطق الجذب التي تصنعها الثيمة / الام من حولها ينبع اساساً من حاجة المؤلف الى تعميق الصلة وشد اواصرها في عالمه السردي، ان الحفر والتعميق في مناطق غير مكتشفه أو متداولة في نصوص سابقة، يترك للمتلقي فرصة التشوف الكاملة، او قراءة تلك التنويعات التي تدور كلها في فلك الثيمة الكبيرة، ينطبق هذا على اعمال الكاتب الامريكي  بول اوستر وكذلك نجيب محفوظ  والاسباني باولوكويلو، الذي قدم لنا عمله البارز والمهم ( الخيميائي ) كنصٍ يحمل الكثير من الدلالات ويشير بوضوح الى مشروع كاتبه على اعتبار ان هذا العمل بحد ذاته يمكن ان يكون تلخيصاً لذلك المشروع  ( الام ) الذي هو طموح نرغب في حيازته كعمل عميق ومتسع الاطراف . وقد انتشرت ترجمات “الخيميائي” في أغلب انحاء المعمورة، ان ما يميز عالم كويلو هي مسألة الكنز المفقود وعملية البحث عنه، والعثور عليه عبر رحلة ممتعة ومشوقة، ومما يجعلها رحلة تمتاز بلذة النص -على حد تعبير رولان بارت- توفر النص على زخم من الحكايات ( التي يمتحن فيها الخير والشر وهما في صراعهما التقليدي المعروف) والتي يجيد باولو سردها وروايتها علينا، كما هو الحال مع روايته “الشيطان والآنسة بريم”  التي سنقدم لها قراءة خاصة هنا، اذ هي تحمل بين طياتها السمات الفنية الحديثة للاسطورة العربية وكنزها المفقود وكذلك تشمل هذه القراءة أدب باولو كويلو الروائي والذي ارى من الضروري التعرف عليه او كشف وحدات تشكله البنائي والفني، ففي هذهِ الرواية نفاجأ بأحد الارهابيين او احد الغرباء ويمكن لنا ان ندعوه بالشيطان الذي يقتحم قرية هادئة ساكنة، مسالمة، تدعى ( بسكوس ) يأتي الغريب حاملاً على أحد كتفيه حقيبة اخفى فيها مجموعة من السبائك الذهبية، التي لا نعلم من أين اتى بها، لكنه جاء الى القرية ، لغاية يبتغيها وهدفٍ يخصهُ وحده، أننا نراه يتحرك ونتعرف على تعابيره او اوصافه من خلال العجوز برتا التي اعتادت على اتخاذ جلستها اليومية، عند باب بيتها تنظر المارة وايضاً تحلم بعودة زوجها المتوفي والذي كان يزورها في احلامها ، سواءً كانت احلام يقظة ام احلام منام، انها تكلمهُ وتحاوره وهو الاخر يبادلها الحديث والحوار، لذا، لم ينقطع امل برتا العجوز بعودة الزوج الغائب وحين يصل الغريب بهيئته المختلفة عن بقية اهالي القرية اذ له شكلاً غامضاً يوحي بالكثير من المواصفات الارهابي الارجنتيني الاصل، كارلوس الذي عاش في القرن الماضي لكنه بالتأكيد ليس هو، انما مجرد رجل غريب جاء الى القرية بمحض المصادفة، وحين يتجه الى الفندق الوحيد في بسكوس يذهب لتسجيل أسمه في سجل الفندق كضيف دائم ، سوف يشاهدهُ ويراه اناس اخرون غير العجوز برتا، وبالفعل يتعرف على الانسة بريم ( أو شنتال كما تدعى ) تعمل في حانة الفندق، الذي لجأ اليه الغريب للسكن فيه، وقد اعتقدت صاحبة الفندق انه قادم من احد بلدان امريكا الجنوبية . ولنا أن نسأل : لماذا أوحى لنا السارد او أحال مداركنا وتفكيرنا الى الارهابي الدولي / كارلوس / ترى هل هي  ادانة صريحة للأرهاب، حتى لو أخذ طابع الثورية والبحث عن الحقوق المغدورة للمستضعفين !!

يجري حوار هاديء مقتضب بين الغريب الذي سوف تستمر تسميته بهذا النعت حتى نهاية الحكاية، رغم أشاعة تسميات أخرى سوف تلحق بهِ، كالشيطان وهي تسمية تطلقها عليه برثا العجوز التي لا تخفي تشاؤمها من وجوده الغامض في القرية ، مع انها تكاد تتلمس بعضاً من نواياه بحكم عدم ارتياحها للغرباء الذين يظهرون على حين غرة، كما هي الحال مع غريب بسكوس ولكن ما هي حكاية الغريب الذي نعلم ان ثمة ارهابين قتلوا زوجته وابنتيه في ماضي الايام ، من اجل الحصول على المال، هذا الجانب من الحكاية سوف نطلق عليه بالدافع الخاص، الذي حرك نوازع الشر لدى الغريب الذي له سمات شيطانية من خلال وجهة نظر برتا العجوز، لكننا هنا امام نص روائي يعتمد سلسلة من الحكايات، ولعل من ابرز حكايات قرية بسكوس التي يسمع بها الغريب، هي ثمة شقي قاتل يدعى / اهاب / كان لا يتورع او يتردد في قتل أي واحد من سكان القرية التي بلغ بهِ الحس بالاجرام الى بث الرعب في اوصال اهالي القرية وفي يوم ما، يهبط أحد النساك من الجبل ليصل الى اهاب القاتل لقضاء ليلة معه لأنه سئم العيش في مخبئه وحيداً في عزلته . فينفجر الشقي ضاحكاً بوجه الناسك :

ـــ الا تدري أني قاتل وانه سبق لي ان ذبحت المزيد من الناس في بلادي وان حياتك ليس لها أي قيمة عندي، فيؤكد له الزاهد؛ انه لا يخشى على حياته لأنه يؤمن بالقدر كما يؤمن بالانسان، وفي اليوم التالي يقرر اهاب ان يغير حياته بأسرها مادام الناسك قد تعامل معه بهذا القدر الكبير من الاحترام .. هذه الحكاية وعشرات الحكايات هي مستند ومرجعية سردية غزيرة الدلالة ، سوف نضع اليد على المعنى من دون جهد كبير .. ان حقيبة الغريب التي يحملها معه اينما ذهب، تحوي على أحد عشرة سبيكة، يدفن عشرة سبائك في الغابة للرهان عليها مع اهالي القرية بعدما يجعل الحفرة الاولى على شكل حرف ( y   ) في الانكليزية للتدليل على الحفرة التي دفن فيها السبائك العشرة بينما يخفي السبيكة الحادية عشر، في مكان اخر قريب من السبائك الاخر، ويقدم السبيكة الاخيرة هدية لعاملة الحانة، الانسة بريم مقابل موافقتها على تنفيذ خطته التي جاء من اجلها ومن اجل الرهان مع اهالي القرية لكي يؤكد ان الشر متأصل في الانسان وبأستطاعته ان يطرد الخير، وهما ( الخير والشر ) في صراع لابد لأحدهما ان ينتصر. فمقابل هذه السبائك التي ستفوز بها القرية دون استثناء ينبغي ان يموت ( بطريقة الاعدام ) شخص يذهب ضحية أو قربان مقابل هذهِ السبائك  ،  لضمان مستقبل القرية (بسكوس) لثلاثين عاماً مقبلة، ولأنجاز اعمال تأهيل مهمة في القرية، وأنشاء  حديقة للأطفال، على أمل ان نراهم مجدداً يدخلون البهجة الى حياة القرية. بعد ذلك طهر السبائك في الغابة لا ادري أين ... هذا الذهب سيصبح ملكاً لبسكوس اذا تم قتل احد المجتمعين هنا في غضون ثلاثة ايام مقبلة، أما اذا لم يقتل أحد فأن الغريب سيغادر القرية مع كنزه ))  ذلك هو قرار الغريب وشرطه الذي لا تغيير او تبديل لهُ، القرار الذي حملته الانسة بريم الى اهالي القرية، وطرحته على شخصياتها البارزة كرئيس البلدية والكاهن وصاحبة الفندق وزوجة رئيس البلدية وغيرهم، ولم يبق امامهم الا تحديد من يقع عليه الاختيار الذي لا تراجع عنه لأن الاختيار سيكون بعد مشاورات واتخاذ قرار ان تكون الضحية عديمة الفائدة وغير فاعلة في حياة القرية، أي انسان يمكن التضحية بهِ دون الشعور بالندم فمن سيكون ذلك القربان الذي ينتظره المصير المؤلم، وهو لا حيلة له في تغيير نهاية ذلك المصير، وتقترح زوجة رئيس البلدية ان القرية يمكن ان تضحي بالآنسة بريم لأنها هي التي جلبت الشر وشجعت الغريب على هذا الدخول الذي سيهدد القيم والمعايير السائدة في القرية. وفجأة، يقول مالك الاراضي: (( لم يبق، أذن سوى العجوز برتا )) ويسمع صوت الكاهن هنا يقدم تبريراً وتأييداً لأختيار برتا العجوز كقربان للقرية ، أذن، تم الاختيار وباركه الكاهن، مع ان الجميع يعلمون قيمة وخطورة التضحية، فالعجوز برتا في الحقيقة هي عين القرية وحارسها الذي لا ينام وان الاعيان سوف يقدمون العين الجماعية قرباناً من اجل الذهب ومن دون ان يسأل أحد؛ هل هذهِ السبائك هي ذهب حقيقي ؟ ام مجرد سبائك مزيفة وذهب كاذب . وبرتا العجوز التي ترى ان هذا الشيطان جاء لغرض أمتحان الضمير الجماعي للناس في بسكوس، انها تدرك ذلك كله من خلال الحدس الذي يساورها كفكرة تبلورت في ضميرها ووجدانها، حالما شاهدت الغريب يتجه نحو الفندق الوحيد في القرية للسكن فيه. لذا، فأن القيام بجريمة القتل ينبغي ان يساهم بها الجميع وعلى ساكني بسكوس ان يتخلوا عن دور الشاهد الى الفاعل، وعليهم ان يحمل الرجال ( كل رجال القرية ) بنادقهم ويصوبوا نحو الضحية وان توزع اطلاقة كاذبة ( خلب ) مع بقية الطلقات، وسيظن كل رام انه اطلق الرصاصة المزيفة وانه لم يشارك في عملية القتل، وبهذا يتم الاجهاز على الضحية من جانب، ويرتاح ضمير القرية من الشعور بالاثم او الذنب. لقد دخلت القرية في الامتحان الكبير والرهان الاخلاقي والوجودي في تقديم الضحية المناسبة، أي الدخول في حلبة الصراع بين الخير والشر، ولعل ذلك كله يتجسد بصورة  دراماتيكية قاسية جداً، عندما يتم البحث عن الضحية ومن سيفتدي القرية ليجلب لها السعادة ومن المؤلم جداً، ان نرى الجميع على استعداد للتضحية بالعجوز برتا، بل انهم تنفسوا الصعداء، عندما يقرر مجلس اعيان القرية، ان تكون العجوز ــ برتا، وهي القربان، الى ان تقف الانسة بريم موقفاً شجاعاً من الغريب ومن مسألة الضحية اساساً، أي انها تقف ضد الشرور القادمة مع الغريب الذي ترى فيه ذئباً يهم بأفتراس القرية وكبريائها، وانه عامل من عوامل الانحراف نحو الخطر والدمار التي غالباً ما تكون بسبب عناصر خارجية لا يد للقرية فيها . ان موهبة المؤلف الفذة في سرد العديد من الحكايات المدهشة؛ تقدم المزيد من الاسناد المعرفي والفكري للخير في ان يتحقق ويشتد عوده على صعيد الواقع وليس على مستوى الرواية فقط . 

عرض مقالات: