اخر الاخبار

كانت فترة سفره وغيابه عن المنزل، فرصة لا يمكن التفريط بها، كي أقوم باختراق قبوه المظلم بعد أن كنتُ أخشى الاقتراب منه في صغري.  كان والدي في الأربعين من عمره، ضخم الجثة كجبلٍ، وله شارب أسود متهَدّل. أحمل له القليل من الحبّ، والكثير من الخوف، أتحاشاه ما استطعت وأتفادى لقاءه، كان خشِناً وفظاً لا يسمح لأحد أن يخالفه رأيه، فحين يغضب يصفعني أنا وأمّي صفعاً مبرحاً، وتحاول أمّي ردعه، لكن بلا فائدة، أما أنا فلا يبقى أمامي سوى الاستسلام لصغر سني. أمّي على العكس من والدي، طويلة ورشيقة، عيناها غائرتان، لا تبدو في صحة جيدة، فقد كان مظهرها يدلّ على أنها مصابة بالسُّل أو أنها غير بعيدة عن ذلك. تسللتُ دون علمها، ودخلت القبو الذي كان أشبه بمغارة عليّ بابا، لكني لم أقل (افتح يا سمسم) كي أقوم بالدخول إليه. كان مصباح القبو يتوسط سقفه متدلياً ساكناً كعين جاسوس ترصد كلّ من يدخل إليه، الرطوبة والعفونة كست جدرانه وحوّلته الى اللون الأسود الأقرب الى الرمادي. سرَت في جسدي قشعريرة كادت تحملني على الخروج، لكنها سرعان ما تلاشت، حين جُلت بنظري المكان وانشغلتُ أقلّب وأتفَحّص ما كان موجوداً داخله؛ هنا كرسي بثلاث أرجل، وهناك دمية فُقئت عيناها، ومرآة فقدَت جزءاً من ملامح وجهها، وثلاث زجاجات نبيذٍ معتّق صُفّت بعناية في إحدى زوايا القبو، وعلى أحد الجدران كان هناك رفّ خشبي أثقِل كاهله بمجموعة كتب كستها الأتربة وخيوط العنكبوت، كان من بينها كتابُ ألف ليلة وليلة، ورواية لنجيب محفوظ، وجرائد اهترأت واصفرّ ورقها، من بينها جريدة توسّطها خبر كُتب بحروف كبيرة: تم إلقاء القبض على المجرم الملقب (أبو طبر)، عدتُ بذاكرتي الى الوراء قليلاً! إنه المجرم الذي حدّثتني عنه جدّتي، رحمها الله، أتذكّره جيداً، وكان على الرفّ أيضاً دفتر مخبوء بين مجموعة الكتب لم تتمكّن الأتربة من أن تغيّب الزخارف الجميلة التي زيّنت غلافه، أعجبني جداً، فقررتُ الاحتفاظ به لنفسي. الأوكسجين داخل القبو بدأ يقلّ، ورائحة العفونة لم تعد تُحتمل، أسرعتُ في الخروج قبل أن تلحظ أمّي غيابي. دخلتُ غرفتي مسرعاً بلهفة وفضول قلّبت صفحات الدفتر، وأزلت الغبار عنه، لأرى ما في داخله، كان فارغاً لم يُكتب فيه شيء، فقط هناك ثلاث صفحات مُزقت منه، وأثر ذلك كان واضحاً في بعض النُّتف التي مازالت عالقة في منتصفه.  مضت عدّة أيام أتأمّل الدفتر، وأمسكه بين يدي، شعرتُ بأن جغرافيّة حياتي كلها قد تغيّرت بعد أن أصبحت لدي رغبة في أن أثرثر له، فأخذتُ أكتب فيه يومياتي كلها نهاراً، وأتوسّده تحت مخدتي ليلاً. كنت مسروراً جداً به، وشعرت بمتعة نسيان  صفعات والدي، حتى بعد أن عاد من السفر، واشتعل جوّ المشاحنة والتنابز بالكلام بينه وبين والدتي، وأخذ صوت الصراخ والشتيمة يعلو من جديد. ما علِمته من والدتي أن والدي كان سجيناً سابقاً حين كانت حاملاً بي، ومنذ خروجه تغيّر حاله إلى هذه الحال، هذا ما كنت أتذكّره . وكنتُ كلمّا انتهيتُ من كتابة صفحة في دفتري أحسّ بارتياح يلازمني لعدة ساعات، وأشعر بأن أمنياتي بدأت تتحقق عن طريق بثّها في يومياتي، وقد أصبح الكثير ممّا أكتب يتصف بالجرأة والجنس. كنت أرى الفتيات الجميلات في أحلامي، وبدأت أكتب عنهن، بل كنت أتحكّم في شكل أجسادهن، وأتخيلهن وكأنهن مخلوقات أسطوريّة “المادة الكتابيّة تربط الجنس بالغرابة واللذة”. أصبحتُ أعيد قراءة ما أكتب عدّة مرات، كي يراودني الحلم نفسه. صرتُ أضع أرقاماً لصفحات دفتري، وأميّزها الواحدة عن الأخرى. لم يدم ذلك وقتاً طويلاً، ففي أحد الصباحات علا صوت صراخ أمّي وأبي من جديد، وراح يُوسعها ضرباً من دون رحمة، حاولتُ منعه، لكنه قام بضربي أنا أيضاً، تعرّضتُ للضرب والإهانة، لكنني في هذه المرة شعرتُ بأنني حرّ !أمّي تجهش بالبكاء، فقد كانت تعاني بصمت، لقد ارتفع صوتها هي أيضاً، كانت لا تعرف القراءة والكتابة، وكان أبي يناديها بالجاهلة، كما لا تعرف طريقة لحفظ كرامتها، لكنها راحت تردّ عليه، وتوجّه إليه الشتيمة، لم يكترث لها، تركها تبكي، وسار بخطوات واسعة نحو القبو، قائلاً لها، سأجلب زجاجة نبيذ أخرى. هذا ما كان يفعله، يحلّ المشكلة بأن يسكب مزيداً من النبيذ في جوفه. حاولتُ أن ألملم شتات نفسي وسط بكاء والدتي، سِرتُ بوجه حالك محمرّ نحو غرفتي، جلستُ صامتاً لعدة دقائق وصوت أمّي يخترق سمعي بل صدّع جدران غرفتي، تناولت قلمي ورحت أكتب يومياتي بلا توقّف: لو يُسجن في قبوه العفن، وأتخلّص منه، وتنعم أمّي بالراحة. كتبت ولم أتوقّف حتى التهم الدفتر قلمي، أخذت نفسَاً عميقاً، وشعرتُ بعدها بارتياح وكأنّ جبلاً قد أزيح عن صدري. ومن يومها أمّي تبقى جالسة تنتظر قدومه، وعيناي ترنوان نحو باب القبو.

عرض مقالات: