لن اتطرق الى الالفاظ الوجودية التي بدأت التلاشي وانعدام الاستمرارية (الديمومة) ، لأنها مفردات تم استهلاكها وفقدت عنصر التشويق رغم ان الفلسفة لم تصل الي النتيجة التي تسكت افواه النهمين الي المعرفة !

سأتحدث عن الغياب الذي يرادف الحضور فبينهما برزخ ..

سأبدأ الحديث عن الغياب الملموس والغياب الضمني او اللاّمحسوس الذي يصبح وقعه اقوى واشد في حالة الضياع في لحظة عاطفية قد تطول الى ابعد من المحتمل.

الغياب لفظة يستخدمها الشعراء في التعبير عن الشعور بالفراغ في الأماكن لعدم تواجد شخص ما على المقاعد، المقاهي، الوسادة، غياب كامل بالصوت والصورة، فهو لا يتنفس ذات الهواء او النظر الي القمر معا او البحر.

رومانسية تلامس الوجدان لمن يؤمن بالحب، ولا تناسب اللاّمنتمي للرومانسية الذي يعتبرها ضعف في زمن القوة، كما تغول البعض في العلاقات كإثبات وجود واخفاء عقد نقص وعقد تربوية!

سأتحدث عن الغياب القسري عن الوطن، وعن الارتباط بالأماكن عاطفيا.

عن الاقصاء المتعمد والانتزاع من حياة وإجبارك التعايش مع حياة أخرى لا توافق عليها وتقبلها ولا تتأقلم مع الشعور بالألم مهما كان البديل مغريا وأكثر راحة ورفاهية، قيمة الاماكن عند البعض والتي لا تقدر بثمن مهما كانت بالية او لم تدخلها الحضارة والمدنية.

حيث يجدون الرفاهية في عدم تغيير الروتين الذي يسيرون عليه حتى النهاية، فهل نتهمهم بأنهم يقاومون التغيير؟

 الذين يعيشون روتيناً محبباً في الاستيقاظ والنظر الى الشجيرات البسيطة التي تحيط بالفناء الخلفي وسقيها بالماء، ومراقبة شروق الشمس من النوافذ وتناول القهوة.

هذا المشهد ببساطته لا يحلم أحدهم بان يتغير حتى وان صارت النافذة تطل على نهر الدانوب او مزارع التوليب، حتى ولا بفنجان قهوة تحت برج ايفل!

يريد حياته في قريته البعيدة التي يصعب فيها وصول الرسائل او وصول الاهل والاصدقاء في وقتهم المحدد وانقطاع الكهرباء حين يحلو السهر وتضييق العيش بالتفتيش العسكري وصعوبة الحصول على التموين!

سمعتها من كبار السن حين يتمنى الجيل الثاني بعض التجديد والتغيير في المبنى القديم تأتيك الكلمة الحاسمة “ لما أموت اصنعوا ما تشاؤون “ وفي القلب حسرة انهم لا يعرفون قيمة الذكرى التي صنعت الحيطان والنوافذ وعتبات الابواب!

لم أصل بعدفي وصف الاحساس بالغياب والحضور بذات الوقت، عند هؤلاء العابرين التي غُيّرت حياتهم بعد كل هذا الامتلاء!

هل تخيلت يوما ان تكتب وصيتك وانت في العشرين من العمر انها نادرة جدا لأنه من الاصعب تذكر الموت ولديك كل طاقة الشباب وحب الديمومة واختبار الاشياء التي لم تمس بعد!

ماذا عن التعبير عن الغياب بما يشبه الموت في فعل الحاضر !

هذا ما استوقفني بلاغيا وشعوريا، متى نحس بالغياب عن أنفسنا في وقت حضورنا نمشي على الهامش سيرا على الاقدام دون ان نفتعل الاثر الذي اعتدنا على تركه، الكاتب الاكثر تأثرا بالرحيل والانتقال لأنه يعتاد المكان ويتشبث بالاستقرار كي لا تضيع حواسه في عالم جديد!

الكاتب نجيب محفوظ ألف وجوده في مقهى الفيشاوي في حي الازهر بالقاهرة الذي اكتسب شهرته بتواجد الكاتب الاكثر شهرة على مقعده حتى ساعات الصباح الاولى!

الاماكن لا تنسى زائريها، الاشخاص هم اللوحة الوحيدة غير المعادة في هذا العالم،

اضحك كلما دخلت المطار على كل بوابات مطارات العالم يُكتب المغادرون والقادمون!

لماذا لا يكتب المغادرون والعائدون؟! لأن المغادرة مضمونة، لكن العودة ليست مضمونة ابدا.

اما الاغتراب عن المقعد الاثير والمكان المألوف، فانه محور الشعور بالغياب والحضور.

الاماكن تشهد على الغياب، خصوصا في الحروب، لأنها تنتزع منك الشعور بالانتماء بعد ان صار القلب يهذي بفطرة البقاء. هل هذا الشعور كاف كي تتحدث النفس مع النفس على سبيل الغياب!

في كتاب “كراساتي الباريسية” للأستاذة لطيفة الدليمي، تتحدث فيه عن لوعة الخروج من بيتها الكائن في بغداد التاريخ الذي تتكهن بعودتها للعيش فيه ثانية وشعور اللاّعودة في أقسى تأثيراته،

حين كتبت “الغريبة تسير وحدها “، “تدندن المرأة الغريبة بأغنية عراقية شجية “ حالة الخروج عن الجسد؛ الى حالة المراقب الآخر، ما الذي اعتراها واصاب مخيلة الكاتبة، ويكانها تشير لأحد آخر لا تعرفه، هل كانت تفصل نفسها عن الوجع كأنه ليس لها ، هل كانت تراقب ضعفها وتحتمي بالقوة بان عزلتها عن هنيهات التهاوي في الحزن والضياع فيه !

قد لا يكون هو السبب قد يكون تعبيرا تهكميا على الحالة الراهنة، كأن يستخدم الجسد وسيلة دفاع نفسية للسخرية من الذات وطبعها في قول “لن أتأثر الى الحد الذي شاءتها الظروف”، ماذا لو قلنا انها المتمكنة المتحكمة بالحالة اللحظية وسخرتها لمتطلبات بلاغية فارهة والتي لا تستخدم الا قليلا، بل نادرا في خطابات وكتابات عربية قح؟

استخدمتها بحنكتها الروائية التي اعتادت على الحوار بين شخصياتها في الروايات، فتقول عن نفسها: تنصت، تلوذ، تتحرك!

انها فرادة الكاتب الروائي حين تعود ثانية لتتأكد من انها تتحدث عن نفسها كشخصية في رواية واقعية تسجلها في مذكرات بيضاء، انها الموجودة في يد كاتب القدر المتحكم الآني الذي جعلها بلا قرار، فسارت على كتابته ومشيئته، ترصد حياتها بيد كاتب آخر!

الغائبة الحاضرة، على سجية المؤلف، الذي اخرجها من بيتها بدافع مؤتمر صحافي كي يوصلها الى باريس ثم.. رغما عنها عمل على ان تخرج من بيتها ليعلن لها صعوبة العودة افقدتها قرارها الذي اعتادت عليه وتشبثها ببيتها المسيّج بالخوف والقلق ووطنها الذي لا يملك الأمان لنوافذه وأبوابه!

وكأنها لأول مرة لم تملك قرارها فاتخذت رصيف الغياب ممشاً عّلها تهتدي اليها!

بلاغيا يعتبر التحدث عن النفس بضمير الغائب أو المخاطب من الأساليب البلاغية والتفنن في الخطاب والمعروف ان من عادة العرب الملل من السياق المتعارف عليه وهذا الفن يطلق عليه الالتفات قال بدر الدين الزركشي في كتاب “البرهان في علوم القرآن”: (الالتفات هو نقل الكلام من اسلوب الى اسلوب آخر تطرية واستدرار للسامع وتجديدا لنشاطه وصيانة لخاطره من الملل والضجر بدوام الاسلوب الواحد على سمعه).

لا يصلح النفس ان كانت مصروفة عن الحال الا التنقل باللفظ من حال الى حال!

اذن لربما أرادت ان تنقل نفسها المهمومة الى حالة من التسلية اللفظية تتلاعب بكلماتها كي تخرج نفسها من السأم والملل..

لغتنا التي تتماشى مع الغياب وتئن بالوحدة فتعكس الكلمات من الحضور الى الغياب، والغياب ليعيدنا الى الحضور، كشعلة تنطفئ لنوقد غيرها.. فنتحدث عن سيرة الاماكن التي لا تمل.

عرض مقالات: