تمتلك قصيدة “ رمية نرد “ للشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه من الحيوات التعبيرية بما يجعلها متجددة مع قوانين تطور حركة العصر(1) ، لهذا كانت ولا تزال تتحدى وعي القارئ لسببين : طبيعتها الطباقية المركبة أولاً ، وطبيعتها الاجناسية المتداخلة ثانيا ً .
اذن هل هي قصيدة نثر أم شعر أم كتابة جديدة ؟
قبل الاجابة . تضع هذه القصيدة – القارئ – أمام إشكاليات عدة ، منها :
الغموض الذي بحاجة الى وضوح ، البياض الذي بحاجة الى إمتلاء ، السواد الذي بحاجة الى تأويل .
وقبل ذلك كلّه ، إن “ رمية نرد “ عمل مركب من مستويات متعّددة ؛ أن لم نقل ذات رموز تعبيرية معقدة ، لهذا نعد هذه القراءة ضربا من المغامرة في الكتابة عنها ، لهذا هناك خيارات مفتوحة : ماطبيعة هذه القصيدة ؟ ونعني بذلك ما لغز الكتابة فيها ؟
فالقصيدة تشتغل على ألغاز الكلمات وليس معانيها بحساسية مضادة للوضوح ، وتُعنى بفكرة العدم أكثر من الوجود ، والانهمام بفضاءات البياض والسواد / أشكال الثريات والنجوم / أنماط الهوامش والمتون/ التوزيع الموسيقي والسامفوني .
ولعل أهم ما يهم مالارميه فيها هو: العلاقة بين “ الكلمات والصمت “ .
وإن كنا إزاء حداثة شعرية ، فهل نحن بحاجة الى “ بخت “ أو “ حظ “ في الوصول الى كنه القصيدة ، وما تضمره من قوانين عمل جديدة في الكتابة الشعرية ؟
من هذا المنطلق ؛ وبغية عدم تشتيت ذهن القارئ امام امتحان القصيدة : فما سُرّة القصيدة ؟ هل نبدأ من حيث إنتهى مالارميه في القصيدة أم من حيث إبتدأت القصيدة ؟
اذن ماطبيعة العالم في “ رمية نرد “ ؟ أهو “ عالم افتراضي عرض حادث - خاضع للصدفة – يمكنه ان يوجد ولا يوجد في آن واحد أو عالم شتات وهاوية لا ثبات فيه ( ... ) كالحُطمة والكاووص الأصيل ، فراغ لا يمكن لرمية نرد ان تحكمه
( N’Abolirajamais) أبداً لن تبطل “ (2) .
يمكن القول ان “ رمية نرد أبدا ً لن تبطِل الزهر “ تمثل من حيث ( تطور الشكل) و( تغيّر اللغة ) ثورة شعرية “ تتلخص (...) في سعيه داخل اللغة الى نسف ثنائية نظم/ نثر” (3) ، وذلك من خلال تدمير النظام المنطقي للاشياء بنظام جديد يتشكل من فضاء بصري قائم على ( التوزيع الطباعي والتنويع الحروفي ) ، فالشكل تتبعثر فيه وحدة القصيدة وتتفكك الى صور وجمل وبياضات وفراغات وفجوات شاغرة ، غير ان “ القصيدة كلها – بتعبير عبد الواحد لؤلؤة – جملة واحدة ، يتخللها عدد من الجمل المعترضة وأشباه الجمل ، دون علامات تنقيط ولا فواصل ولا علاقة مباشرة بين الصفه والموصوف ، ولا بين الفاعل وفعله “ (4) .
ورغم ان “ رمية نرد “ تعتمد “ الوزن الاسكندراني “ ، فإن مالارميه يقول” لا أخرق هذا الوزن “ وانما “ فقط أبعثره “ (5) ، وبذا فان هذه القصيدة “ لا هي من النظم ولا هي من النثر، وانما هي كتابة مركبة تركيبة شعرية جديدة مغايرة لكل منهما .
لهذا تقوم “ رمية نرد “ بتحطيم نظام القصيدة المألوف ، وذلك باستخدام نظام جديد من الكتابة الشعرية ، يتشكل بقوانين عمل جديدة ، أحدثت قطيعة عنيفة مع تقاليد الارث الشعري برمته ، وبذا “ لا يمكن لهذه القصيدة أن تقوم ، لأن الميزان الشعري المسمى ( AleXandrin) قد حُطِّم تحطيما ً من طرف “ الشعر الحر” ، والقصيدة الموزونة قد اختل ميزانها من طرف “ قصيدة النثر” فباتت إشكالية مالارمي هي: أيمكن اختراع ميزان ( metrique ) دقيق وضروري مثل الاسكندراني “ وإتفاقي صُدَفي مثل “ الشعر الحر” (6) .
إذن نحن إزاء قصيدة تقوم بتفكيك الشعري المألوف من خلال زحزحة الحدود الاجناسية القائمة بين ( النظم/ النثر) ، بما في ذلك تقويض نظام اللغة بالكلمات المبعثرة ، وتنويع مستويات الفضاء البصري بدلالات متعدِّدة على وفق حيوات شعرية تتحّرك بأفق مفتوح من حيث الأفكار المشذّرة والثيمات المبعثرة .
لهذا إنبنت القصيدة على كيفية مبتكرة في تصفيف ابياتها إبتداءً من الكلمة ، وإنتهاءُ بالبيت ، ومرورا ً بالجملة ، وثمة خيط خفي ناظم بين نثار هذه الكلمات ، مما استند التوزيع فيها الى بناء موسيقي هارموني متحرِّك بحركة ( سفينة عائمة في لجة البحر “ مهّددة بالغرق) ، وتتحكم في عملية التوزيع آلية تقطيع اللغة ، وذلك لتخليق: فراغات ، فجوات ، شواغر ( تشكل فيها البياضات بنية مهيمنة ) لتفتيت نواظم الشعري فيها بالنثري تعبيرا ً عن سطح مترجرج ، تتعايش عليه متناقضات متعدِّدة ، ذلك هو سطح البحر بوصفه رمزا ً لوجود مضطرب غير مستقر، وبذا فان كل ما قيل في القصيدة “ يميل الى النفي ، ولكنه نفي توكيدي “ لن تبطل أبدا ً “ الصدفة : أي تؤكد وجود الصدفة أو وجود الزهر” (7) ، ثم تتفك القصيدة الى كلمات، والكلمات الى نجوم ، والجمل الى ثريات عبر مغامرة مفتوحة على المجهول ، تتماهي بين العدم والوجود ، حيث يتعرّض فيه الكلام الى التدمير، ويتعرّض معه الوزن الاسكندراني – Alexandrin الى التحطيم والتفكيك ، أي ثمة دال تائه يبحث عن مدلول له عبر إزاحات مستمرة .
وان كان التوزيع الطباعي لا يخضع الى أي نظام خطي أو قاعدي له في “ لعبة النرد “ ، فإن “ البياض والسواد “جزء من اللعب الحر في تأويل اللا معنى من الفراغ أو العدم بوصفه معنى مضمرا ً ، بدلالة إندماج البياض بالصمت .
ويتسع الفضاء المفتوح لإحتواء بنى مستوياتية متعدِّدة تمتزج فيه قصيدة النثر بالشعر الحر، وكثافة الشعري بالتبعثر النثري باستخدام “ قصائد في قصيدة متشذِّرة “ (8) لتتشعب الرؤية وتنفك الى وجهات نظر متعدِّدة الى الحياة والموت / النسبي والمطلق ؛ حيث ينبني فيها المعنى ضد المعنى شكلا ً ودلالة .
وإن كنّا إزاء متاهة مفتوحة ، فمن أين تبدأ هذه المتاهة ، وأين تنتهي ؟
لم يسع مالارميه الى “ وصف الاشياء ، وانما الى معرفة الوقائع المؤدية إليها “ ، وذلك بعد أن مرّ بتحوّلات قلقة من الشك الى الغموض ، وقد قاده الغموض الى الرمزية ، لهذا يواجه القارئ صعوبة في فك شفرات الغموض في شعره ، لأنه غموض مقصود بذاته ، من أهم سماته الاضمار والمجاز والتوَرية .
وقد كان مالارميه يسعى الى” الحفر في الكلمات “ لتكون أكثر امكانية في التعبير عن العدم ، لهذا اتخذ من “ الحفر في الكلمات “ طريقا في الوصول الى الشعر الخالص ، ولكن هل كان مالا رميه شاعرا ً عدميا ً ؟ .
لقد تجاوز مالارميه في “ لعبة نرد “ الزمان والمكان ، حيث المطلق الشعري ، ليضعنا في اللامتناهي من الوجود ، فقد قام بتجريد اللغة من دلالتها على الواقع بدلالة ميتافيزيقية ، وصولا ً الى النقطة التي تشفّ عن العدم ؛ عدم الذات والكائن والعالم .
لقد تلقّف مالارميه المعني الميتافيزيقي المطلق ، بعد أن أحدث قطيعة عنيفة مع كل ما هو مألوف ، بدلالة ان القصيدة تتجه نحو ذاتها ، نحو كنهها الغامض ، أي “ ان القصيدة لاتمضي الى ذاتها ، لا الى جمهور جاهز ، ولا الى قارئ محدّد ، كل شيء منفي حولها ، وورإءها ، فلنقل انها لعبة المستحيل “ (9) ، لأن مالارميه عاش في عصر مضطرب ، متقلِّب ، ملتبس ، فاتجه نحو تدمير الذات وتفكيك النظام المنطقي للاشياء كرد فعل على إنهيار البنية التحتانية التي كان ينتمي إليها ، مما جعله أكثر إنهماما ً باللغة واللعب بدلالاتها الحافة ، لهذا فالقصيدة مركبة تركيبة لاشعورية بحساسية مضادة لتمثيل الطبيعة وتغريبها برؤية عدمية .
ولهذه السببية إنبنت قصيدة “ رمية نرد “ على سلالم معقّدة من الغموض بلغة رمزانية قائمة على بنى طباقية متقطِّعة متشذّرة من الكلمات والصور والتذهينات اللاشعورية .
وإن “ كل فكرة – كما يقول مالاراميه – هي رمية نرد “ ، أي ضربة “ حظ “ أو “ بخت “ أو مغامرة غير مضمونة لحظة إنوجاد أو انعدام ، يتحكم فيها اللعب الحر بالكلمات والفراغ ، أي بكلمات متفجرّة بالصمت الدال على الذات المطبوعة فيه .
ورغم انه لاتوجد قواعد ثابتة في اللعب الحر بـ “ البياض والسواد “ أولا ً ، وفي كيفية تكسير الأبنية الخطية بآليات تشذيرية ثانيا ً، فإن التقطيع الذي تنتمي إليه القصيدة ( رمية نرد أبدا ً لن تبطل الزهر) قائمة على مبدأ ( نفي النفي) ، وذلك للدلالة على ذاتها اللا - دلالية ، التي يتساوى فيها النفي والاثبات .
ولكل ذلك ، فالقصيدة كتابة مركبة تركيبة لا شخصية ، قائمة على تقويض النظام الشعري المألوف برمته ، وبناء أسس جديدة ، تنطلق من أسفل القاع الى أعلى نقطة في الرؤية الى العالم .
• احالات
(1) نشرت قصيدة “ رمية نرد “ في مجلة (cosmopolis ) سنة 1897 ، ثم نشرت بعد وفاته في مجلة (nouvelle revue francaise ) سنة1914 .
(2) إدريس كثير/ الشاعر مالارمي /https://ueimag.blogspot.com
(3) عبد القادر الجنابي / الافعى بلا رأس ولا ذيل/ دار النهار ، بيروت/ ط 1/ 2001 / ص 47 .
(4) د.عبد الواحد لؤلؤة / ألوان المغيب / دراسات ومترجمات نقدية/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ 2009/ ص 32 .
(5) د.عبد الواحد لؤلؤة / ألوان المغيب/ مرجع سابق / 34 .
(6) إدريس كثير/ الشاعر ما لا راميه/ مرجع سابق .
(7) إدريس كثير/ الشاعر ما لا راميه/ مرجع سابق .
(8) محمد بنيس/ التأثير العربي- الأسلامي في “ رمية نرد “ :
http://www.jahat.com/ar/jahatAlkalab/pages
(9) بول شاؤل/ مالاراميه – سحر الغموض / مجلة العربي/ مايو 1999 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد وقاص عراقي/ رئيس تحرير جريدة “الاديب الثقافية”