اخر الاخبار

لم أهادنهم , إقتحمتُ بوّابة القاعة، ورأسي بيدي كرة فولاذية، أبصرتهم يتحلّقون حول مائدة مستطيلة، يتقدّمهم رجل بوزه كبوز الكلب، على يساره رجال أولهم نظر إليّ بعيني عقاب جارح، وعلى يمينه رجال آخرهم كان إظفر سبابته يشبه مخلب النمر، صرختُ بهم ملء صوتي:

- قتلة ... !!

حدّقوا نحوي بلا مبالاة، كأنهم لم يسمعونني، أحدثتُ دربكة بينهم، تدحرجتْ قهقهاتهم الداعرة على سطح المائدة، لعلهم لم يشعروا بي، عَبرَ صوتي من فوق رؤوسهم، إرتطم بالجدران، إرتدَّ بقوة، حتى عَلِق بين الزاوية والفرجال، قلت لهم:

- في محفل الزُهرة، لاأحد منكم يستحي 

لم ينتبهوا، كانوا سادرين في ثرثرتهم، طوّحت بالكرة عالياً، لكنهم لم يتحرّكوا، خبط سيدهم مقدّمة المائدة، كان الهواء محاصراً بقبضته، سقط من فم أحدهم عود ثقاب، أبصرت الفتنة عاهرة ترقص في محفل الزُهرة، هصر أحدهم زهرة الأوركيد أو خصيتي الثعلب بين أصابعه، بدا لي وكأنه يعبث  بذكورته، غرس آخرهم مخلب النمر في سرّة التفاحة، إنفلقت الى نصفين، خرجت منها امرأة محتشمة , بصقتْ في وجه الكلب، سقطت ذراع أحدهم تحت المائدة، حدّقتُ في عيني سيدهم، كان الدخان أو الغبار يتنافذ من محفل الزُهرة، وقد حجب عني شعار “العَظْمْة والجمجمة” الملصق على الجدار أعلى رأسه، ضحك أحدهم بفم أدرد، أيقنت أنني لم أُقبّل فم الزُهرة، حتى أتطوّح بينهم، لكنني كنت أُطوّح برأسي، أجهزتُ ثانية على سيدهم، إنتابته نوبة من الضحك، حتى تقيأ مافي جوفه، قلت له: 

- أنت رجل قميء، والموت في تقاليدنا له طقوس مهيبة

إنفعل بغضب، كوّر الهواء  بقبضته، ضرب بها حافة المائدة، إهتزّتْ الكؤوس وتداعت الجدران، تقدّمتُ نحوه، سحقتُ قبضته  بحذائي الأسود الثقيل، خلتُ الهواء يتحرّر من قبضته، ولكنه سحب زجاجة خمرة في غفلة  مني، ملأ كأسه بدم النبيذ , دفع بالزجاجة الى أقصى المائدة، تلقفها الرجل الذي غرس مخلب النمر في سرّة التفاحة، ملأ كأسه بنبيذ الدم , دفع بها نحو رجل آخر كان بين يديه كتاب على غلافه زاوية وفرجال، عندها إحتشد السواد كلّه في رأسي، رميت برأسي وما رميت، تدحرج رأسي من أقصى نهاية المائدة، وقبل أن يصل مقدّمة الرجل الذي إستطال بوزه كبوز الكلب، تناثرت شظايا الكؤوس، ولكنهم لم يرتبكوا، كأن رأسي لم يخبطهم، ساورني شك: هل خانني رأسي؟!  نهض سيدهم، مدّ ذراعه الطويلة، سحب قرص الشمس من شرفة النافذة، ثم حجبها في خزانته الحائطية، هبط ظلام دامس في الخارج، تمركز رأسي وسط المائدة، أشاحوا بوجوههم صوب بعضهم البعض، رأيتهم يتشاورون، كأن رأسي لاوجود له بينهم، أيقنت ان المؤامرة في محفل الزُهرة خطرة، إذاً سأُطيح بالكرسي الذي يسند مؤخرة سيدهم، شرعتُ بغلق النوافذ وسدّ الأبواب بقوة وإحكام حتى لايفلت أحد منهم، سأقطع تيار الضوء، وقبل ان أُطمس مايؤثث وجودهم بالظلام، سأُطيح بخزانة سيدهم حتى أحرّر قرص الشمس من المحبوس، وسألتقف كتاب “ الزاوية والفرجال “ بحركة خاطفة، سأستل مخلب النمر من سبابة الرجل الجارحة، سأُذرّ الرماد الطالع من السواد في عينيّ العقاب.

ولكنني فكرت أن أُرجىء الإطاحة بكرسي سيدهم الى حين، لهذا تركت النوافذ والأبواب مفتوحة على الظلام، قطعت تيار الضوء بدافع التلاعب بأعصابهم، سقطت القاعة في السواد , أبصرت عيونهم لاصفة لامعة عبر سدف الظلام , طوّحتُ بالكرة بحركة دائرية، ثم خبطتهم بها بكل ماأُوتيت من قوة، حتى تنامى إليَّ هشيم الأشياء وهي تتناثر من حولي، كنت أصغي إليها، وهي تتصادم بقوة عنيفة، فقد نطّت الى السقف، ثم إرتدّت باتجاهات متعاكسة بين المائدة والسقف والجدران، بدلالة : الصور المؤطّرة التي تحطّمت على أرضية القاعة/ الأوراق والملفات التي تطايرت في كل مكان/ الكؤوس والزجاجات التي تهشّمت على سطح المائدة، لم أر ذلك، إنما كنت أسمع الأشياء: تنسحق، تتشـــظى، تتناثر، دفعتني رغبة قوية لأن أعرف ما أحدثته الكرة الفولاذية من فوضى مدمِّرة لهم، أعدتُ تيار الضوء، إستغربت حقاً!!

أبصرتهم يخرجون من القاعة من بين الزاوية والفرجال، وقد إستبدّت بي لحظات من الدهشة والشك والإرتياب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قاص وناقد ورئيس تحرير جريدة “الاديب الثقافية”.

عرض مقالات: