اخر الاخبار

(1)

للدكتور(حاتم الصكر) في نفسي ووعيي مكانة أثيرة وتواصل معرفي وإنساني لم ينقطع مدده منذ أن عرفته قريياً، وشاعراً وإعلامياً وناقداً أرسى لاسمه منزلة متميزة تجلت منذ مراحل اشتغالاته الثقافية الأولى التي جاءها محملاً بخبرات التثقيف الذاتي والدأب المعرفي والعمل في التعليم والسفر، والكتابة والنشر، ومجادلة الوعي حتى التوثق المتيقن منه، ليستحيل ذلك كله عنده مشاريع أدبية ونقدية وكتابات معرفية تتنادى لنشرها الصحف والمجلات العراقية والعربية قبل أن تستحيل مؤلفات تلفت التلقي إليها، وإلى وعي كاتبها المتميز عمقاً وأصالة.

كان (حاتم الصكر) ثاني اثنين ـ مع الأديب والفنان التشكيلي (حميد ناصر الجيلاوي) ـ ممن تفتحت أسئلة الوعي عندي على ما كان أهلنا يرددونه من ذكر مفاخر بهما، وما كان يستعاد تداوله من أخبارهما، وما يقع بين يدي تلهفي القرائي المتعطش لكل ما يتناهى إليّ مما يكتبانه وينشر لهما.

وإذ فقدت (الجيلاوي) شهيداً في أوج لحظات الاحتياج المعرفي، والرغبة في اجتراح التوجهات الكتابية المناسبة التي بدأت بالتأسيس لها فقد تهيأ لي أن ألتقي الصكر في أوائل الثمانينات، أيام نشرت لي مجلة (الطليعة الأدبية) واحدة من قصائدي التي أحيلت ـ ضمن قصائد العدد ـ إليه ليقول رأيه فيها منشوراً في العدد اللاحق من المجلة. ومنذ ذلك اليوم ابتدأت رحلة التواصل معه، والتعلم منه، والحرص على اقتناء كتبه التي كانت محطات وعي مفصلي في الدرس الأدبي والنقدي العراقي. ولتكتمل وشائج تلك الصلة بيننا عميقة ومتفتحة على  مواضعات معرفية وإنسانية طيلة سنوات وجودنا سوية في اليمن التي تجاوزت الأربع عشرة سنة، كانت مترعة ـ إلى جانب التواصل الاجتماعي مع أصدقاء أحبة هناك ـ بالدأب الثقافي والأكاديمي والانشداد إلى المشرةع الأدبي اليمني الذي كانت رحابته بنا وافية حدّ أننا تماهينا مع قضاياه، وعايشنا مشغلاته وانشغالاته، وكتبنا فيها أكثر من كتاب.

وخلال تلك السنوات تهيأ لي أن أتوافر على مساحة خصيبة مع الاستقصاء الإنساني والثقافي تمنحني إمكانية الحديث عن جوانب من المسيرة المعرفية والأدبية الحافلة بالعطاء للمعلم الكبير الدكتور(حاتم الصكر).

(2)

استقام مشروع (الصكر) النقدي على جملة مواضعات لها ما تبثه من مخرجات على صعيد المنجز القرائي اللاحق عنده، تمثلت بدءاً في مناطات متعددة المشارب، استهلها بدراسته الأكاديمية الممعنة في تلقي التراث ـ والتراث الإسلامي خاصة ـ إذ هو خريج كلية أصول الدين ببغداد، لتساوقها تطلعات مثاقفة تتلقى كل ماحولها من انهماك معرفي وفكري وإبداعي، وتعيد إنتاجه مثابات رؤى واستلزامات مسلك ثقافي خاص. يتماهى معه اتساع التجربة العملية في أبعادها المعرفية والإنسانية عن طريق التواصل ـ عبر سلك التعليم وسواه ـ مع بيئات مختلفة ـ مدينية وريفية، عراقية وعربية ـ واستيعاب وجوده فيها والتفاعل مع وقائعها والمشغلات القيمية التي تحتكم إليها. جاعلاً عدته في ذلك التواصل دأبه المعرفي الذي لايقف عند حد، وقراءاته المنفتحة على كل ما تناله من أسباب القراءة ومستجداتها التي يسعى إليها بنزوع دؤوب ورغبة في الاستزادة يستوفي فيها كل ما يراه جديراً بأن يقرأ ويتمثل في متن معرفي، وآخر إبداعي (شعري) أخبرعنه في المراحل الأولى من مسيرته الأدبية المتنامية.

وجاءت النقلة إلى حيث العاصمة بغداد، والانتماء الفعلي إلى الوسط الثقافي العراقي في مؤسساته الرسمية، وتداول المسلك الأدبي وظيفة من خلال العمل في (دار ثقافة الأطفال)، ثم (دار الشؤون الثقافية العامة)، وذلك ما أفاض على صلاته الثقافية اتساعاً وحضوراً أكثرعمقاً وحميمية، ووضع بين يديه المنجز الثقافي العراقي بمختلف مجالاته وفنونه وأجياله التي راح يقاربها بعين وعي رصين وحساسية تمثل واستقراء نبيل لايفرق في تلقيه بين المنجز المتميز لأي منها.

ولأن فضاء طموحه في ترسيخ متنه المعرفي لاسقوف تعيق تطلعاته فقد عززه بالدراسة الأكاديمية في أعلى مستوياتها، فنال شهادة الماجستيرـ وهو على أعتاب الخمسين ـ عن رسالته (تحليل النص الشعري الحديث في النقد العربي المعاصر)، ثم واصلها ـ سنوات إقامتنا في اليمن ـ ليحصل على الدكتوراه عن إطروحته (النزعة القصصية في الشعر العربي الحديث – أنماطها وتشكلاتها). ولم يكن ذلك ليجهده أو يعيق خطاه المعرفية، فما هما عنده سوى كتابين : (ترويض النص: تحليل النص الشعري في النقد العربي المعاصر- القاهرة 1998م)، و: (مرايا نرسيس ـ قصيدة السرد الحديثة في الشعر المعاصر، بيروت 1999م) عزز بهما رصيده من التأليف قبلهما الذي لايقل عنهما عمقاً وتفرداً وإجابات عن أسئلة الإبداع ومنهجيات نقده الشاغلة لفضاء التلقي المتوارث والراهن.

وإذ تواجهنا وسائط المعرفة (الألكترونية) بجديدها المتسارع فنقف مترددين وعاجزين عن مجاراتها، يستجيب د. حاتم الصكر لمقتضاها بجدية صارمة ودأب متسارع، فيتقن طرائق استخدامها، ليصبح دليلنا إليها ومرشد كثير منا لتعلمها.

ومع اشتغالات يومه الطويلة بالتدريس الجامعي، وحضورالندوات والمؤتمرات واللقاءات الثقافية الأخرى لم يكن ليفرط بما تبقى من وقته ـ على رغم كثير من ظروف شخصية قاسية عاناها ـ فقد كان يواصل الكتابة والنشر والتأليف، حتى أنه نال درجة (الأستاذية) بزمن قياسي.

(3)

أنتج ذلك الانهماك المشتجر من التجارب والقراءات ـ وهي ترصد كل ماحولها وتستنطقة باستقراء بعيد في توصلاته ـ مخرجات بادخة الإدلال على سمات تجربة نقدية حافلة بالتميز تحصلها د. (الصكر)، سواء وهو يتصدى لقراءة الظواهر الأدبية والمنهجيات النقدية المعاصرة، أو في تحليله النص الأدبي الذي تكرّس واحداً من أبرز مهيمنات مشروعه النقدي.

لقد انتمى ناقدنا إلى الحداثة رؤية وتمثلاً نقديا، وكانت واحدة من تجليات ذلك عنده إمعانه في تفحص مناهج الدرس النقدي الحديث والتعربف بها، والتبشير بما حققته من منجز قرائي، في مسعى نبيل لإيصال الوعي بها إلى أوسع قطاع ثقافي ممكن، من دون أن يكون ذلك ارتهاناَ مطلقاً لمقولاتها، بل عبر مواجهة قرائية فاحصة، وتخيّر واع يستمد منها ما يتواءم ومشروعه النقدي الذي ذهب به ـ في الغالب عليه إلى تجاوز أية آيديولوجيا نقدية تضيق عليه وتقننه، ليشرّعه حيوياً في فضاءات القراءة والتلقي والتأويل، جاعلاً إياه فاعلية ذهنية عميقة في توصلاتها، وكشوفات ذائقة ممعنة في تحسسها الجمالي، وهي تستدرج الإبداع نحو فعل قرائي منتج لمكتسبات نصية مجاورة تتلقى النص التراثي بالحيوية ذاتها التي تستقبل بها المنجز النصي في تشكلاته الأجد الذي بدا الصكر ميالاً إلى الاشتغال عليه برؤية تستشرف مستقبل النص الشعري العربي فتجده في (قصيدة النثر) التي اهتم بها في عدد من كتبه : (قصيدة النثر في اليمن، صنعاء2003م)، و(حلم الفراشة ـ الإيقاع والخصائص النصية في قصيدة النثر، صنعاء 2004م)، و(الثمرة المحرمة- مقدمات نظرية وتطيقات في قراءة قصيدة النثر، الرباط 2019م).

وإلى جانب اشتغاله في تداول التجارب الشعربة ومعايشة ممارساته النقدية لمتونها (النصية) في معظم كتبه التي أهلته أن يكون ناقداً إجرائياً منذ أولها: (الأصابع في موقد الشعر ـ مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة، بغداد 1984م) فقد محض اهتماماً لافتاً للكتابة (السير ذاتية)، فأصدر فيها: (البوح والترميز القهري- دراسات في الكتابة السير ذاتية، القاهرة 2014م) و:(أقنعة السيرة وتجلياتها ـ البوح والترميز في الكتابة السير ـ ذاتية،عمّان 2017 م).

وذهبت به كشوفات وعيه المفعم بتحسسات جمالية باذخة إلى معاينة الفن التشكيلي فكان له حصته من مؤلفاته: (المرئي والمكتوب ـ دراسات في التشكيل العربي المعاصر،الشارقة 2007م)، و:(أقوال النور ـ قراءات بصرية في التشكيل المعاصر، الشارقة- 2010م)، ثم: (كن شاسعاً كالهواء- قراءة في دفاتر الفنان غسان غائب،عمان 2021م).

دوّن (الصكر) مفردات مشروعه النقدي كلها بلغة معرفية أنيقة تماهت مع سمات شخصيته النقدية والإنسانية، فكانت لها شعريتها في التخيّر الإدائي، وسماتها الأسلوبية المخبرة عنها بنصاعة دالة  وهي مع عمق التصور الذي تبديه تأتي سلسة التكيف، مباعدة خطاها عن أي تعمية أو غموض، أو عبارات مستهلكة أو إطناب لفظي أونزوع نحو الخطابية المتعالمة.

 بهذه اللغة عالية التثقيف أرسى ( الصكر) مكتنزات مشروعه النقدي الذي تجاوزت متونه العشرين كتاباً لفتت أفق التلقي المعاصر وجادلت مواضعاته، ابتداء من العنونة التي تشرع فضاء التأويل إلى أرفع مدياته، ومروراً بالتخّير الاصطلاحي المطمئن لتيقناته، وانتهاء عند سعة الكشوفات المعرفية التي أرست للصكر مكانة تميزه وحضوره المهم في النقدية العربية الراهنة.

عرض مقالات: