اخر الاخبار

جلس ايدن ينظر من كوة الكوخ الحجري الى الامتداد الازرق اللامتناهي امام بصره ولم ينتبه الى ابنته أيا التي مرت من أمامه حاملة كأساً مغلياً من الاعشاب البرية لتضعة على الارض بجانبه وهي تقول بنبرة تصطنع فيها الجدية “أبتي لقد جلبت لك دواؤك”.

نظر أيدن اليها بابتسامة حب وسحبها من يدها الصغيرة ذات الثمانية اعوام ليضمها الى صدره الذي اتعبه السعال ورطوبة البحر المالح.

تململت في حضنه فضحك قائلا “لقد كبرت يا أيا وقبلها بين حاجبيها كما يفعل عندما يشعر بالحنين الى والدته” ثم أضاف وهو يتأمل عينيها الزرقاوين كزرقة البحر الذي يعشقه “هل تعرفين لماذا اسميتك أيا؟”

أجابت وهي تريد تحاول الفكاك من قبضة يدة التي أكلها ملح البحر وحبال الصيد القاسية “ نعم يا أبتي لأنه اسم جدتي”

ضحك الأب وهو يطلق سراحها واضاف “ وماذا أيضا؟”

فانبرت الام من زاوية الكوخ الحجري حيث انهمكت في تحضير وجبة الطعام اليومية الوحيدة

“ولأنه اسم الهة المياه فوالدك يعشق البحر، ثم اضافت بتهكم، رغم ان البحر لا يعشقه”.

نظر اليها أيدن نظرة عتاب وقال “يا امرأه انت تعلمين أن البحر صديقي وهو مصدر معيشتنا وديمومتنا، فانا لا اعرف مهنةً سوى صيد الاسماك كوالدي وأخي نانش الذي سرقته منا الأمواج، ونظر باتجاه البحر ثم أكمل “قبل أعوام لم اعد اعرف عددها”.

ردت المرأة بلهجة واثقة “سبعة اعوام، كان عمر ابنتنا أيا عاما واحدا”. انتبه ايدن متفاجئا واتسعت عيناه ونظر الى أيا متسائلاً “انت بلغت عامك الثامن؟ يا للالهة كم يمر الوقت سريعا يا حبيبتي”

فاردفت زوجته بسخرية “بل هو أبطأ من السلحفاة”

لم يعلق أيدن على جملتها الساخرة فقد تعود على مزاج زوجته المتفلب كسمكة القرش التي تدور في الماء برشاقة منتظرة الفرصة لتهجم على فريستها.  وبرغم السنين العشر التي عاشها مع هذه المرأة والتي بذل قصارى جهده لأسعادها الا انه لم يستطع اخماد غضبها المتوقد ومزاجيتها الجارحة.

عاد أيدن الى قوقعة الصمت وهويتمنى ان ينتهي فصل الشتاء ليعود موسم الصيد الذي ينتظره كما السجين الذي ينتظر اطلاق سراحه.

“أبتي”

فز أيدن من دهاليز افكاره ومد رأسه من قوقعة الصمت مجيبا بصوت خفيض “ماذا تريدين يا أيا”

فاجابت أيا بسؤال بدا وكأنه يشغل بالها منذ حين “أين ذهب عمي عندما اخذته الامواج؟ هل ما زال يسكن في قاع البحر؟”

نظر اليها باستغراب قائلاً “ومن قال لك بأنه يسكن في قاع البحر؟”

فقالت أيا “صديقتي نانسن ابنة جارنا صانع شباك الصيد.”

تنهد أيدن وسكت لبرهة ينظر الى أيا التي مازالت تجلس أمامه تتطلع اليه بعينيها الزرقاوين تبغي اجابة لسؤالها ثم قال بصوت دافئ “أيا، يانور عيني، ان عمك نانش يرقد جسدا في قاع البحر لكن روحه حلقت بعيدا الى جبل الالهة وستبقى هناك حتى يقرر كبير الالهة موعد عودتها أو ربما بقائها هناك، لا أعلم!!”

قالت أيا “وما هي الروح يا أبتي؟”

وهنا تدخلت الزوجة لتنهي هذا الحديث الذي لا يجوز للأطفال ان يخوضوا فيه  “أيا توقفي عن ازعاج ابيك، انت مازلت صغيرة على هذه المواضيع، تعالي ساعديني في تحضير الطعام.”

نظر أيدن الى ابنته بعطف وغمز لها بعينه مؤكداً بأنه سيجيب على اسئلتها لاحقا عندما تذهب والدتها للتبضع لطعام اليوم التالي كعادتها كل يوم.

بعد ان فرغوا من اكل عصيدة القمح الساخنة تمدد أيدن على حصيرته البالية ونامت أيا على ساعده كما يحلو لها أن تفعل وقت القيلولة.  كان المزيج المتناغم بين سكون الكوخ الدافئ وصوت الامواج الهادرة خارج المكان الامثل ليزحف شيطان النوم الى اجسادهم ويسدل اجفانهم بلمسة اصابعه الساحرة. 

استيقظت أيا على صوت الامواج المتسارعة وجالت ببصرها فلم ترى والدتها، لابد انها ذهبت الى سوق القرية.  فاستدارت بحماس لتوقظ والدها “استيقظ يا أيدن فقد حان وقت أسرارنا” اطلقت ضحكتها الطفولية وهي تهز كتفه بقوه. فتح أيدن عينيه بتثاقل ثم فركها قبل ان يستقيم في جلسته ويطلق سعاله المتواصل كعادته.  أسرعت أيا الى ابريق الدواء الذي مازال دافئاً لتناول والدها بعضا منه.

رشف أيدن بعضا من منقوع الاعشاب البرية الساخن. على الرغم من طعمه المرالا أنه يريح صدره المريض. ثم قال بتكاسل وهو يتثائب “اين كنا يا أيا؟”

فأجابت باهتمام بالغ “كنا مع عمي نانش”

فتمتم أيدن مدعياً النسيان أملاً ان تكون ابنته قد سألت سؤالها “آه صحيح وماذا عنه؟”

قالت أيا “أريد ان اعرف ماهي الروح يا ابت؟”

تأمل أيدن طويلا في البحرالهائج من خلال الكوة الصغيرة وهو يبحث عن جواب يليق بسنها ثم اطلف زفرةً مسموعةً وهو يقول “اسمعي يا أيا”

فتحت الصغيرة عيناها الزرقاوين باتساع وكأنها تسمع بهما مما دفع بوالدها الى الضحك بصوت عالي ثم أكمل “نحن بنو البشر مصنوعون من جسد وروح. الجسد ينمو في جوف الام ببركة الاب وحبه.  ولكن هذا الجسد يكون بلا فائدة الا اذا دخلت فيه الروح.”

“واين تنمو الروح يا أبي؟” بادرت أيا

فقال الاب بثقة المؤمن “الروح لاتنمو يا بنيتي، بل تمنح الى الانسان.”

قطبت أيا حاجبيها وقالت “من يمنحها لنا؟ هل هو حلاق القرية الذي يداوي الناس؟”

فرد أيدن ضاحكاً من سذاجتها العفوية “ لا يا عصفورتي الجميلة، بل هو المقدس كبير الالهة”

نظرت أيا الى والدها باستغراب وهي تسأل “وكيف يفعل ذلك؟”

أجابها وهو واثق من ان اجابته ستكون كافية لأنهاء هذا النقاش” هو يرسل نفحةً من انفاسه مع الالهة نيدابا الهة الخصب والتي تدخل هذه النفحة الى جسم الوليد من فتحة انفه وهذه النفحة هي روح الانسان”

صمتت أيا وادارت عيناها في المكان أما ايدن فكان واثقاً بانه قد اجاب على تساؤلاتها. وكان على وشك ان يطلب منها ان تنصرف لدرس القراءة والكتابة التي تحاول تعلمهما في المنزل عندما بادرته بسؤال اخر

“وهل كل الارواح تأتي من كبير الالهة؟”

قال أيدن وقد بدأ صبره بالنفاذ “نعم بالتأكيد فهو الاله القدير” وهو يخشى على عقلها الصغير البرئ أن يتيه في دهاليز عالم الارواح الغامض.

اقتربت الفتاة من والدها وهمست “أذن نحن مقدسون لأننا نحمل الروح الالهية”

“اعتقد هذا!!!” اجاب ايدن متعجبا من جواب ابنته

صمتت أيا طويلا وهي تدير نظرها في أرجاء الكوخ الفقير حتى ظن أيدن بأنها لن تجد شيئاً آخر تقوله، لكنها فاجأت ابيها باستنتاج لم يتوقعه من الفتاة ذات الثمانية أعوام “اذا كنا جميعا مقدسين فلماذا نحن نعيش في كوخ حجري صغير وفقير ليس فيه ما يقينا برد الشتاء او حرارة الصيف الرطبة ونأكل وجبة طعام واحدة، بينما يعيش كاهن القرية في بيت واسع جديد وفيه كل ما يتمنى اولاده من الطعام اللذيذ والملابس الجميلة؟ لا يا ابتي انت مخطئ. لابد ان تكون ارواح الفقراء من مصدر غير مقدس والا كيف يرضى كبير الالهة ان تعاني ارواحنا من شظف العيش وبرودة الجو وفراغ الجوف؟  نحن المغضوب علينا في الدنيا مع طيبتنا وايماننا.  هل هذه عدالة يا ابت؟

لم يجد ايدن رداً منطقياً لسؤال أيا فأشاح ببصره عنها ورنا بعيدا ينظر الى البحر ملجأه الحقيقي متمنيا أن يأتي موسم الصيد سريعاُ.

عرض مقالات: