اخر الاخبار

محمد كاظم وحسين المخزومي، اسمان لشاعرين جديدين، يكتب عنهما بسخاء نقدي كل من الأستاذ ناجح المعموري وسيمر الخليل، ويعنينا ان نكون قد ساهمنا في اغناء المشهد الإبداعي في ملامحه الراهنة.  المحرر الثقافي

أمنية الشاعر لن تتحقق، والانشغال بها تعبير عن قلق وارتباك الذات، مخاوف العمر المتراكم وفساد ما ذهب من تاريخ وحتماً سيكون الآتي أكثر خراباً. ولأن الشاعر محمد كاظم لديه حلم أن يتحول صغيراً وهذا ما لم يتحقق. لذا أراد افراغ خزان ذاكرته كلياً عن المعاش والمشاهد العالقة بذاكرته وصارت جزءً حياً من سيرته التي لم تجد غير الشعر مروية لحكي ما عاش بذاكرته عبر تاريخ طويل، والافراغ الذي تراكم في خزان الذاكرة وظل معتاداً على التعايش بثقلها، لأن المرويات ليست سهلة، وقساوة المخاوف والقلق واشتعال النيران واحتراق الأخضر الذي لم يترك غير رماده الرطب.

محمد كاظم لم يذهب للشعر ويكتبه، مثلما يتمظهر في الكتابات وكأنها تبدًّ لمن يتعلم الكتابة من هنا ديوانه الجديد“ زارني الشعر”، فيه خصائص فنية وطاقة الملوك على التعايش مع الترافة والجمال، لذا أنا أعتقد بأنه من التجارب الشعرية المهمة، لأنها لم تكتف بالمجاز كخاصية للشعر الذي لن يكون إلا به ومن خلاله وفتح منفذاً بنائياً جديداً في الشعرية العراقية وهذا سبب صمت الحركة النقدية، وهي موجودة لكن الاجازة التي تمتع بها النقاد ليست لها علاقة بتمظهر الشعر أو حتميته. إنها الصدفة. وهذه النصوص مثيرة جداً، زينتها مثل ما انثيال ما يتراكم وسط كفين.

أمنية محمد كاظم

“أريد أن أكون شاعراً صغيراً“ تكفي شهادة على تجربة ذات تجوهر بعيد عن الافتعال الذي لن ينقذ اليومي من انغلاقات اللغة ودمارها بحيث صارت نثاراً تحمله الرياح القوية ولا يتبقى منها ما يستحق الحضور من انفلات اللغة عن سيطرة طاقة الشعر. أريد أن أكون شاعراً صغيراً. واعتراف بما يتمتع به من هبات آتية له من فصوص الشعر ومذهبات الملتقط متكوماً بين يدي الشاعر. الامنية ليست مماثلة للحلم، رغبة محمد كاظم أن يكون شاعراً صغيراً، لم توفر له الحياة بيومياته أن يكون هكذا والأمنية ليست آنية، بل هي تسحب معها المنتظر وهي أكثر قسوة من الحلم، لأنه يحضر لحظة المراودة ولأن الشاعر محمد كاظم لم يتلمس هذه الامنية أو يشعر بها حسياً اضطر بطاقة التخييل التي يكون بها الشعر مثلما قال هابرماز، انفتحت منافذ هيجان المرويات التي منحها اليومي والمعروفات ملمحاً مثيراً للمتعايش مع الشاعر الذي تحققت أمنية في لحظة ارتباك الزمن بالمرويات وتفكك المنطق والمعقول فيها، لذا انثالت المحكيات الشعرية رطبة، مرنة، تستفز الحاضن لها وهو يزاول ترتيلاته وكأنه داخل في عمق طقس بدئي، هو الذي اختار للشعر قداسته وجنونه لحظة انفلات المعقول. وهجوم اللامعقول، الأسطوري المحتفى به وسط نصوص مثيرة بدهشة مرويات. التقطت معها وقائع وأحداث الدمار والخذلان والخيبات الثقيلة المخيفة، المرعبة وكأني تكشفت في النصوص التي هي 76 نصاً مرويات العنونة الدالة على تغييب العقل مؤقتاً“ اريد أن اكون شاعراً صغيراً“ ويتحرر من حطام متراكمات الاوهام والحقائق التي سربها الجنون وتعايش معها المتلقي واكتشف أول مرة بأن الشاعر الصغير كان :

بحجم قطرة الندى

أو بحجم ضحكة عصفور

يتسلى برذاد الماء

أريد أن اكون شاعراً صغيراً

بشهادة بياض شعري

الذي غزاني في العشرين

وها انذا أسدلُ ستارة الخمسين

دون أن أمرر عليه صبغة رخيصة

المحكيات المتراكمة عبر تاريخ متباه بالتحبيك الذي جعله قوة ممتلكة السلطة والتحكم ومعاندة شرف البياض الذي باح به وعنه في المقطع السابق وبالأخير الجديد :

أريد أن اكون شاعراً صغيراً

كي لا“ يكرمني“ أحد

ويسرق مني تاريخاً

دوّنته على أوراق صفر

وأن يبقى مداد قلمي ابيض،

يخط على ورق الليل.

“أريد أن اكون شاعراً صغيراً“ حتى يقول ما يستطيع عليه شاعر آخر، قول الاساطير ويقظة الأحلام. التي ترقرت بستة وسبعين سلمة وقدم لنا محمد كاظم ملحمة شعرية الاجزاء هي العناصر الفنية والبنائية الجديد تماماً، وغير المعروفة والمألوفة لأن التجربة الشعرية لجيل الثمانينات قدم ملحمة مختلفة ومغايرة. واخترق الشاعر محمد كاظم ما تعارف شعراء الثمانينات وابتكر ملحمة غير مسبوقة. وما يتبادر للذهن ليست ايقونات وتواقيع، بل هي أرواح داخلية مثل كسر المرايا، كل كسرة تمثل نصاً تحالف مع غيره وصاغ زقورة مبنية بهواء الشعر ومجازاته ومعاودة حضور الاساطير فيه. ومثل هذه التجربة تلطيفات لليومي من ملوثات التواريخ وتشوهات الدمار والسلطة التي منحت نوعاً من التمرد حتى تطفر روح الشاعر ويغادر يومياته ويلوذ بمرويات التاريخ ويقدم ملحمته الجديدة المصاغة من نصوص فيها تمثيل لكسر المرايا، تتحول لاحقاً كل كسرة منها الى مرآة كبرى، تتسع لجماعات وتمتد كتواريخ مكتظة بمرويات لا يمكن استحضار التاريخ من غيرها، لأن الحكي هو المعيار الفني المميز للتاريخ، يتكتل شيئاً فشيئاً حتى تتبدّى تحبيكات تضفي على الارواح النصية ملحمية يجب ملاحقتها بعد الانتباه اليها. وبالتالي تكبر الصفة الملحمية وتلتمع ورقات التكونات النصية وتتجوهر الملحمة مع اختلافات متباينة فيها آفاق يضفي عليها التباين صلادة التنوع على الرغم من أن المرويات لها صوت واحد، وكأنه تمثيل لشخصية النص الملحمي التاريخي، وتلتم حوله عناصر بنائية ذات طاقة فنية تحوز هيمنة متأتية من عنصر الاستعادة لما تلتقطه الذاكرة من خزانها واعادت حلته، ليصير ملمحاً بنائياً ويبرز بالتتالي الى تشكل فني.

ان ملحمية النص لا تعني توفر العناصر البنائية التي عرفتها الملاحم التاريخية التي عرفتها حضارات الشرق القديم، ومثال ملحمة جلجامش. أي أننا نستطيع اقتراح خصائص ومميزات لكل تجربة من التجارب، يمكن ان تجعله متفرداً عن غيره بوجود ملمح بارز، ذهب اليه الشاعر وتعامل معه بوصفه خاصية يجب التركيز عليها، لأن المدلول الاجتماعي هو الجوهري.

عرض مقالات: