اختلف عالم الاجتماع العراقي د. علي الوردي عما درج عليه سابقوه ممن تصدوا للاشتغال في مجال الدراسات الاجتماعية اختلافاً بائناً، مما وفر لنفسه امكانية تشكيل مشروع معرفي فريد سواء في آليات التفكير أو طرائق المنهج أو (اللغة /الكتابة) أداة الاتصال مع المتلقي سماه هو بـ(الأسلوب التلغرافي)، فضلاً عن الجرأة المتناهية، وهذه السمات –وغيرها- مجتمعة مكنته على دراسة المواضيع الحساسة جداً، وبسبب ذلك الاختلاف وتلك المغايرة المعرفية التي امتدت سنواتها نحو نصف قرن تقريباً، أثار الكثير من ردود الأفعال الحادة، وجنى في حياته قدراً من الخصومات على مستوى الأفراد أو الأحزاب أو الهيئات العامة أو الأنظمة الحاكمة، وما يزال منجزه الفكري حاضراً حتى الوقت الحاضر، وباعثاً من بواعث الحراك المعرفي، ومثيراً للجدل، يستأثر باهتمام الأوساط الثقافية في العراق كافة.

شهدت مسيرة الفكر الإنساني نقلات نوعية في طبيعة المعرفة بالاتساق مع التغييرات العنيفة التي أحدثتها الثورة العلمية في القرن السابع عشر، إذ تحولت سيادة الفكر الفلسفي التأملي بعد فترة مخاض طويلة الى سيادة الفكر الوضعي، الذي اثر بدوره في طبيعة وشكل المعرفة الإنسانية بما في ذلك آليات الحصول عليها. ويمكننا الإشارة الى التقسيمات المعروفة حول مراحل الفكر الوضعي على الرغم من وجود تداخل واضح فيما بينها، كالآتي:

1 - مرحلة الرؤى الكلاسيكية التي جاءت من منظور وصفي، خاصة عند مؤسس علم الاجتماع الحديث أوجست كونت. وركزت على تخليص العلم من الشوائب اللاهوتية والميتافيزيقية، بالاستناد على أطروحة كونت من خلال قانون المراحل الثلاث لتطور الفكر الإنساني (اللاهوتية- الميتافيزيقية- الوضعية).

2 - مرحلة الرؤى الحديثة التي جاءت من منظور امبريقي يعتمد المبدأ التبريري، أسست لتفسيرات منطقية عقلانية في ضوء ارتباطها بالتفاعلات الاجتماعية بين الإنسان والإنسان، والإنسان والطبيعة. كما أن الوضعيين في هذه المرحلة، لم يكونوا على كلمة رجل واحد، إذ جاءت رؤاهم متباينة، بل ومتناقضة في بعض الأحيان.

3 - مرحلة الرؤى ما بعد الحداثة التي جاءت من منظور تأويلي، وحاولت تأويل الذات لكل ما يحدث في العالم المعاش بعيداً عن مقولة الحياد والموضوعية.

يستدعي بنا هاجس التقصي عن المرجعيات التي استند عليها تفكير د. علي الوردي أن نلجأ الى مقاربتها مع السياق التاريخي للفكر الإنساني، ووفق ما تقدم ذكره، نجد بأن رؤى الوردي الفكرية، معبرة أصدق تعبير عن أفكار النظرية التجريبية-الوضعية، لاسيما في المرحلة الكلاسيكية، وهذا لا يعني أن الوردي كان خارج مدار الحداثة أو بعيداً عن فكر الزمان الذي يرتاده، بل كان متفاعلاً مع عصره، يعتني بالتعاطي مع الواقع المعاش، يسعى في البحث عن الموارد المفاهيمية المعاصرة، يلاحق موجات التحديث، ويجتهد في تغذية مكوناته الثقافية بكل ما هو حداثوي، ونشير الى أبرز مدلولات ذلك الأمر أنه اعتمد مبدأ النسبية المعرفية الذي يشكل اليوم أساس فكر ما بعد الحداثة.

كما يلاحظ في منجز الوردي الذي خلفه لنا، تلك السمة الموسوعية، إذ تنوعت اشتغالاته وتعددت مساربه واتسعت مضانه، ولعل الوجهة الأبرز التي ركز عليها طوال رحلته البحثية المضنية، كانت مساعيه ترنو نحو تنوير العقل وتحريره عن جملة من الأطواق التي تقيده، متلمساً إحداث نقلة نوعية في آليات التفكير، مما دفعه الى تأمل العقل النظري، والخوض في غمار الفلسفة للتزود من منجزها، بصفتها أعلى مراحل التفكير، وأحدى الميادين المعرفية التي تمس اشتغالات عالم الاجتماع من قريب، ويبقى التحريض على التجديد غواية الوردي، وتبقى فكرة التقدم عنوان مشروعه المعرفي.

تعامل الوردي مع طرائق التفكير السائدة التي تنطوي على نمط منهجي تقليدي، وتشير الى مستوى الوعي العام، البعيد كل البعد عن سبل التقدم الإنساني، فلم يكن يريد من الناس الاتكاء على من يفكر بالنيابة عنهم، وتصدى لكل من يحاول أن يسلب فسحة التفكير منهم، ولم يتوان عن الوقوف بحزم ضد ما يمكن أن نطلق عليه بلغة اليوم بـ(المثقف الرسولي) الذي يوهم الناس ويتوسل سذاجتهم ويصادر تفكيرهم، وبالمقابل سعى الى إحلال النور في العقول، عبر تحديد مرتسمات طريق التفكير العلمي الذي يفتح أفقاً واسعاً للفكر، ومجالاً رحباً للاختلاف والتنوع، محرضاً على الإبداع، لاسيما في حقول الثقافة بوصفه عملية تكاملية، لا بد أن يقترن فيها العقل مع الخيال الذي ينتجه اللاوعي.

تنبه الوردي الى بعض مما هو متجلٍ في مشهدية الفكر العراقي المعاصر، لاسيما بعد أن تفحص ملياً حيثيات الظواهر الاجتماعية والثقافية، ومنها على سبيل الإشارة: قصور في الإبداع الفكري، وضعف الرؤية بسبب الافتقار الى النظرة العلمية، وعدم القدرة على التحليل، والانغلاق بسبب الإسقاطات الذاتية والايديولوجيا والعقائد ورواسب الماضي، كما تأمل بدقة ما ينتج بسبب تلك الحيثيات من تناشز اجتماعي وازدواجية في الشخصية. الأمر الذي مهد له الخوض في غمار دراسة طبيعة العقل البشري وطرائق التفكير، وهذا ما دفعه باتجاه دراسة إشكالية المنهج بوصفها معضلة معرفية متمثلة في استخدام نمط تقليدي في التفكير، غير قادر على توجيه العقل وجهة صحيحة تمكنه على اكتشاف حقائق الأشياء، واجتراح ممكنات نقل المتعقلات الى الواقع بما يوازي حاجات الإنسان في وفق ما تقتضيه روح العصر الحديث الساعية نحو معارج الإنسانية، حيث للفرد قيمة وللعلم المكانة الأولى. وقد مثلت توجهات الوردي في هذا المنحى محاولة واعية، نشدت توجيه الفكر عبر تطوير الرؤية لواقع الأشياء وما حولها من ظواهر على وفق منهج علمي حديث.

وعلى منوال موقفه الناقد لمنطق أرسطو (الصوري)، ذهب الوردي كذلك في تحديد رؤيته للعقل البشري على النقيض من النظرة الأرسطية التقليدية التي تعد العقل هو الجوهر وتثق به ثقة مطلقة وتبالغ في تمجيده، فالوردي يقر بأن عظمة العقل ليست مطلقة بل هي محدودة، وقد أخطأ الفلاسفة القدماء عندما وثقوا به واحتكموا اليه في الأمور بلا حدود، ويرى أن العقل البشري لم يبتكر مكيدة أبشع من مكيدة الحق والحقيقة. والاعتبار الأهم في هذا الاتجاه يتضح قوامه لنا، بعدما وضع الوردي أصبعه على مكمن خلاف فكري مفصلي، متسائلاً: هل الفكر البشري هو الذي يخلق الحقيقة أم أنها هي التي تخلقه؟ وهو سؤال انقسم المفكرون فيه على فريقين منذ أيام الإغريق القدماء، ففريق (الأفلاطونيون) قال: بان العقل البشري ليس إلا مرآة للحقيقة حيث هو يعكس صورتها من غير تغيير أو تشويه، بينما مال الفريق الآخر (السفسطائيون) في رؤيته الى النقيض من ذلك، ومؤداها: إن الحقيقة بنت العقل وأن ليس هناك حقيقة خارجة عنه، والإنسان هو مقياس الحقيقة. ولا يقف الوردي بعد تفحص وجهتي النظر مع أحد الفريقين، إذ يرى بأن الحقيقة متبدية في جوانب ذاتية (نسبية) وموضوعية (مطلقة) في آن واحد، بمعنى أن الحقيقة تخلق الفكر ويخلقها الفكر في الوقت نفسه، فكل منهما سبب للآخر ونتيجة له أيضاً.

وما جاء به الوردي فيما تقدم، إنما هو استجابة وتأكيد لما ينادي به وليم جيمس أحد كبار منظري الفكر البراجماتي، الذي كان يقلل من قيمة صورنا الذهنية عن الأشياء، حين يقول: إن هذه الصور مهما بلغت من الوضوح فأنها لا يمكن أن تعدو الأشياء نفسها، فالنار (العقلية) لا يمكن أن توقد خشباً واقعياً، والماء (العقلي) عاجز عن أن يطفئ ناراً، حتى ولو كانت ناراً عقلية، ومن هذا فأن الوردي على ضوء منحى البراجماتية هذا يرى بأن الماهيات العقلية لا وجود لها، بل الموجود هو الآثار السلوكية التي تتحقق فيها الفكرة.

لقد عالج الوردي كل من المتخيلات الموروثة والموجهات اللاشعورية تحت عنوان فرعي أطلق عليه (الإطار الفكري) -وهذا يختلف عن مفهوم (الهابيتوس) عند عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وذهب الوردي فيما اجترحه هنا الى مقاربة ذكية، تمثلت في إعادة إنتاج تنظيرات عالم الاجتماع جورج هربرت ميد، وتوصلات عالم التحليل النفسي المشهور سيغموند فرويد، الذي اكتشف مجاهل اللاشعور، من حيث أن أغلب حركات الإنسان وسكناته يسيرها ذلك الجزء الغاطس من العقل، وعلى حد وصف الوردي ليس العقل الظاهر إذن إلا خدعة، الغرض منها التضليل والتمويه ووضع الطلاء والزخرفة على حقائق الأشياء. أما هربرت ميد فقد نظر الى المجتمع الإنساني على انه حصيلة العلاقة المستمرة بين العقل البشري والنفس البشرية، وما سلوك الفرد إلا انعكاسات اجتماعية لتفاعل النفس والمجتمع، وفي المحصلة النهائية يكون السلوك استجابة لعدة دوافع تبتغي إشباع حاجات الفرد النفسية والاجتماعية والبايولوجية.

لذلك كله، يرى الوردي بأن هذا الإطار الفكري مكون من قيود نفسية واجتماعية وحضارية، وهو بمثابة المنظار الذي أعتاد الإنسان أن ينظر عن طريقه الى الكون، ويشبهه كقطعة الجلد المعروفة بـ(الحنديري) التي توضع فوق عيون خيول العربات لكي توجه بصرها على الدوام الى الأمام، ولا فرق عنده في هذا الخصوص بين البشر –متعلمين أم غير متعلمين، وإن وجد هناك تفاوتاً، فهو في الدرجة وليس في النوع. بعبارة أخرى أن لكل إنسان وجهة نظر عن العالم وما حوله، وهي بمثابة الخلفية المعتمة لذهنه، تتبدى على وفق طريقة خفية، ليس في مقدوره ملاحظتها بنفسه، بل يسلم تفكيره الى سطوتها تسليماً طوعياً، وينقاد الى هيمنتها انقياداً لا إرادياً، ومن هنا يرى الوردي أن العقل البشري بوجه عام لا يستطيع أن ينظر في الأمور نظرة حيادية مطلقة، وعلى هذا الأساس يكون من الضروري الالتفات الى أن الثقافة متسقة مع الأفكار التي تسود في تلك الحقبة أو ذلك العصر، وقد تتغير خلال مجرى التاريخ بتأثير ظهور خبرات وتجارب جديدة للجنس البشري، ولكن مثل هذه التغيرات تكون بطيئة في العادة، وقد أوجز الوردي باختزال بارع ذلك المنحى في ضوء أرومته الخلدونية، حين ذكر: بان أي إنسان لا ينمو عقله إلا في حدود القالب الذي يصنعه المجتمع له، وهذا الرأي ليس ببعيد عما أشار له ابن خلدون في مقدمته عندما ذكر بأن الإنسان ابن عوائده، وانه يستمد أخلاقه وقيمه من المجتمع الذي يعيش فيه ويخضع لظروفه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وما يفسر هذا القول أن هناك عوامل لاشعورية مستقرة في أعماق العقل الباطن، والإنسان في العادة متأثر بها من حيث لا يشعر ولا يدري، كالمعتقدات التي نشأ عليها والعاطفة والمصلحة والآنوية وحدود المعرفة والتجارب المنسية والعقد النفسية. وتوكيداً لهذا المنحى، يستعير الوردي من كارل مانهايم ما يعزز رؤيته المتمثلة في أن العقل يقتبس من الحقيقة جزءاً ثم يضيف اليها جزءاً آخر من عندياته اللاشعورية، ليكمل بذلك صورتها المتخيلة، لذلك كل فرد منا يحمل حقيقته الخاصة.

لقد رحل علي الوردي المفكر الاستثنائي عن عالمنا، ولكنه لم يرحل عن الحياة الثقافية العراقية لأنه تمرد على نمط التفكير التقليدي، وتبنى تنوير العقل، ودافع عن فكرة التقدم، ناشداً التجديد، ومحرضاً على الانتقال من جهل الى معرفة، وهذا يكفي لأن يبقي حضوره حياً بيننا... 

عرض مقالات: