الورقة الثالثة، مرحلة التمثيل، وأعني بها  كيف يصبح المثقف مثالًا للاديولوجيا، فتضيع هويته في منشديه ومريديه ومواقفه الحياتية، أي الكتابة بالقلم الأحمر. ويمكن تمثيلها باللوحة الفنية. أي النص الذي يقرأ من قبل قراء غير محددين بزمن، وهو ما أصبح عليه مظفر النواب وجواد سليم والجواهري وغيرهم. هذه الورقة لم تغلق على نهاية اسطرها ،بل هناك من يضيف إليها ويوسع من كلماتها وصورها، ستبقى مضيئة ودائمية كل ما مر عام على وفاة مظفر او أي مناضل، هذه الورقة يكتبها الناس وتفعلها الجماهير وتعيد انشائها الكتابات الجديدة وتبقى مفتوحة على التأويل لذلك كانت مكتوبة بالقلم الأحمر واعني التجربة التي يضيفها الآخرون”لقراء مشاركون” للورقة .

 هذه الورقات الثلاث، مررنا بها جميعا ولكنها كانت متباينة من مثقف إلى آخر، وهذا التمايز هو الذي جعل مظفر متميزًا بطريقته التي اختطها ومختلفًا عن سعدي يوسف مثلا الذي اختط طريقة أخرى للتميز الذاتي  وفهم الاديولوجيا ودور المثقف. وكلاهما يختلف عن عبد الرزاق الصافي وزكي خيري ومناضلين وشهداء. مما يعني ان النزعة الإنسانية للفكر الشيوعي ليست تعاليم خارجية وتلقينية، إنما هي وعي للممارسة الاجتماعية متجسدة بمواقف وطنية ، كان من نتيجتها أن دخل المثقف السجن وقد اعدم بعضهم وقد اجبر آخرون عن التنحي عن نضاله وقد هاجر الكثيرون وقد رفع  البعض السلاح مواصلين الكتابة في الورقة الثالثة..

ربما لم يخطر على بال احدنا أن مظفر النواب في هذه الورقة توقف عن الكتابة والإنشاد والعمل السياسي والدعوة إلى اسقاط الحكام الفاسدين الذين ضيعوا البلدان والإنسان، لقد اصبح مظفرا قصيدة واغنية وانشودة ومثلًا يردده ملايين الناس بلهجاتهم واختلاف قضاياهم حين وجدوا في حياته وطريقة نضاله الصورة الثورية التي تعوضهم الصوت والموقف، وفي ابسط صور هذه المشاركة نجد كل من يعيد قصيدة او موقفا لمظفر هو مظفر آخر، ومن هنا فالورقة الثالثة لحياته يكتبها القراء والعارفون به والمنشدون والمغنون لذلك سيكتب هذه الورقة الاف الناس في عديد البلدان وبلغات مختلفة، هذا هو مظفر الذي اثرى ذائقة الناس بمواقفه وقصائده واشعاره التهكمية ولغته المباشرة، وكل من عرف مظفرا هنا في بغداد وفي سجون العراق وفي المنافي وبلدان الهجرة سيعيد الدور نفسه كلنا طلبنا منه ان ينشد وان يغني وان يقرأ شعرا، وكان رخيا مثمرا كاي نخلة عراقية لا تبخل بثمارها، ليالي دمشق التي حظيت برؤيته فيا مع جمع من المهاجرين ومن مختلف الاتجاهات كان مظفر يجمع الجميع على مائدته الثقافية ويشاركهم في أغانيه وقصائده ومواقفه.  أيام بروكسل حين انشد لجمهور عربي ومن مختلف الانتماءات فكانت القاعة ضاجة بالصوت والنداء والثقافة، وفي بيتي في هولندا حين استضفنا في أمسية كان صوتا ولغة ومواقف، هذا المظفر  الذي أصبح أيقونة الثقافة الوطنية ولغة لا تنفصل مفرداتها عما نفكر فيه. استطيع القول ان الورقتين الأولى التي اسميتها السكيتش المكتوبة بالقلم الرصاص، والثانية التي اسميتها الكتابة بالقلم الأزرق قد اندمجت في الورقة الثالثة التي يكتبها قراء مظفر بالقلم الأحمر ومن ينشد قصائده ويتبنى مواقفه.وما أمسيتنا هذه الا كتابة في الورقة الثالثة التي تتسع لاحقا لتصبح طريقة تفكير .فمن يكتب الورقة الثالثة، هم نحن قراء مظفر  وانتم الذين تستمعون، وانتم الذين تقرأون، سيكون مظفر حفنة من تراب توزعت المدن العراقية ومدن المنافي وتشربت في حياتنا ولم نعد التفكير بمظفر من خلال ما عاشه وكتبه، بل من خلال ما نفكر نحن به من طريقة لا تنضب أبعادها لمعارضة اية سلطة لا تنتمي للشعب. حيث نجد لغته ومواقفه لغتنا ومواقفنا، ولذلك اندمجت الأيديولوجيا  بالثقافة وأصبحتا مظفر النواب وغيره من المثقفين الذين لم يجدوا فاصلة بين أفكارهم وحياتهم.

ستبقى الورقة الثالثة مفتوحة الوجهين يقلبها جيلنا الذي عاش ما عاشه مظفر وتكتب عليها أجيال جديدة لم تعش ما عاشه ولكنها تجد في حياته وقصائده ومواقفه صورة لنضالها، هذا ما عنيته الورقات الثلاث التي هي سيرة مناضل لم يهدأ يوما من الكتابة على وريقات الحياة اليومية لشعوبنا العربية.

عرض مقالات: