هذه زاوية جديدة ، نقدم فيها قراءة لاحدث ديوان صدر لشاعر كفء مع أحدث قصيدة له ، لم تنشر من قبل ، وذلك بهدف تقديم صورة جلية عن الشاعر ومنجزه .

المحرر الثقافي

أنْ تكتب قصيدةَ النّثر حقّاً يعني أنّكَ أولاً ستفتح  الكتابة على آفاق شاسعة من الرؤى والجمال، أنْ تهزّ كلَّ ما هو ثابت كي تكون خارج كلّ ما هو مألوف بلغة مُغايرة تلتحم مع دلالاتها مُستنطقة بأسئلتها وفقاً لسياقات جماليّة مُركِّزة على بناء العلاقات وحضور الصّورة وإعادة الفهم للواقع بنظرةٍ عميقة. أن تكتب قصيدة النّثر، يعني انك تغذّي ذائقة المُتلقي في البحث عن كلّ ما هو خفيّ، إشكالي. قصيدة النّثر وفقاً لنوعها المُغاير هذا غالباً ما لا تصل بيسرٍ إلى المُتلقّي، لأنها تصله بكلّ ما هو قلِقٌ متحرّك ومتغيّر..، وتضعه في مواجهة جمالية ومعرفية معها، أي هناك معادلةٌ متوازية ما بين الذّات الكاتبة والذات المُتلقّية.                      

هذه مقدمة عامة مختصرة عن قصيدة النثر، كي نتناول الشاعر رعد فاضل في كتابه الشعريّ العاشر (اللعب بجواهر الأشياء) الصادر مؤخراً عن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق 2022. أنّ كلَّ كتابةٍ حيّة حقيقيّة تقوم أوّل ما تقوم على اختلاف الرؤى والقناعات والتّنوع، فهي عمقيّاً بصددِ محاولات تجديد وتغيير وخَلْق نظرة مختلفةٍ تجاه العالم والأشياء. إنّ كلّ مَن قرأ أعمال رعد فاضل الشعرية سيلاحظ بوضوح بأنه في كلّ عمل شعريّ من هذه الأعمال يبدو كما لو أنه شاعر آخر أسلوباً وأفكاراً ومعالجات..، وهذا يحيلني إلى ملاحظة دقيقة جداً لرولان بارت « نصّ فوقَ نصّ لا يضيء شيئاً البتّة». وقد أكّد رعد نفسه على ذلك في كتابه (مُسوَّدات عابر عيش:( «من جهتي في كلّ كتاب ومخطوطةٍ أنا آخرٌ، كأنّما أكاد أكون غيري في كلّ واحدٍ أو واحدة منها  «. ولأنّ رعد فاضل يتحسّسُ الأشياء بحواسّه الخمس ويكتبها بحاسّته الخفيّة حاسةِ الرائي السّيميائيّ العارفِ بالأسرار، فهو يضعُنا في اصداره الشعريّ الأخير هذا أمام تجربةٍ أخرى على مستوى الأسلوب والتّنوع والبناء والتّشكيل والرؤى، على طريقته المعهودة بالنسبة إليه في سائر كتبه الشعرية السابقة، ويأتي هذا توكيداً وتأصيلاً لرأيه النظريّ السابق.

نحن أمام تجربةٍ شعريّة انطباعيّة، تجربة لم يخُضها الشاعر سابقاً، فيما نجدها مبثوثة هنا وهناك في كتبه السابقات، لكنه لم يخصّص لها كتاباً كاملاً كما فعل في كتابه موضوع مقالنا هذا. وبما أنّ الشّعر له خصوصيته المعرفيّة .. ثقافةً وفلسفةً عِبر كلّ مراحلة التي يمرّ بها..، ليضع علامتَه الفارقة على هذه الحمولة أو تلك، فرعد فاضل وضع علامته الفارقةَ على حمولته المعرفيّة في تجربته الجديدة(اللعب بجواهر الأشياء)،  بعد أن عاش يُتمَهُ الشعريّ الشخصيّ حتى طرح هذا الإصدار، كما أنّه يضع شرطاً كي يعترف هو أوّلاً بنفسه جواهريّاً مُتقِناً فنّ الصّنعة وذلك وفقاً لتوصيفه في مُفتتحِ الكتاب «أن أكتب يعني أنْ أقرأ مُتأمِّلاً كلَّ ما بين حاصرات العالم وأقواسه وطيّاته، وكلَّ مُهمَّش مُهمَل مُدّعَى عليه أحياناً مُشوّه السّمعة لأنّه بعيد نظر وحمّالُ أوجه ضاربٌ في البعيد، يعني أنْ أُخلخل الأشياء حتى يتسنّى لي اكتشاف جواهرها ثم أعمل على تصميم مواقعها وأدوارها تصميماً تأملّياً في هذا اللعب الشعريّ وفقاً لانطباعات ورؤى شخصية إلى حدّ كبير».أن الانطباعية تقوم على فكرةٍ جوهرها (الإحساس) فطالما ان الشاعر يحسّ بوجودهِ بمعنى (أنا أحسُّ إذاً أنا موجود) وبالظواهر التي تُحيط به، فهو قادر على نقلها والتعبير عنها إلى الآخر نقلاً فنيّاً معرفياً، فهو عندما يصف مشهداً أو ينقل أحاسيسه إزاء مشهد ما، نجدُ انفسنا أمام لوحة تصويرية انطباعيّة وفي الأدب الانطباعيّ يكون المضمون هو الأهم لا الشكل الفنيّ، على إثر ما يتركه الشاعر أو الكاتب من انطباعات في نفس القارئ، ومن هنا وُجّه لكتّابها نقدٌ لتسجيل أحاسيسهم وانطباعاتهم حرفيّاً مُتجاهلين القيمة الجماليّة التي تُحتّم أهميّة الشّكل الفنيّ في العمل الأدبيّ. 

إنّ انطباعات الشاعر في نصوص (اللعب بجواهر الأشياء) مختلفة تماماً عن مفهوم الأدب الانطباعيّ التقليديّ، إذ إنّ نصوصه هذه تقوم على قيمتها الجماليّة وبنائها الفنيّ وصورها الشعريّة المعبّرة عن مختلف زوايا الرؤيا والأفكار والفلسفات والأشياء..، كاشِفةً عن جواهر وخزائن نفائس هذه الزوايا وخفاياها، كانت نصوصاً بموازاة مضامين أحاسيسه وانطباعاته لأنّه قرأَ العالمَ مُتأمّلاً تأمّلَ شاعر لا من خلال رؤية مُسجِّلٍ، أو مُصوِّر فوتوغرافيّ عابر. وإذا ما تأملنا النصوص لوجدنا انطباعات مغايرة عن طريق وصفه لمشاهدَ مُهمَّشة أو ليست ذات أهمية..، لكنّه قدّمها لنا بجماليّة انطباعيّة عالية، فمثلاً في نصّه (مُخلّفات ص٣٤) يقول: «القفصُ شِبهُ المُحطّم لا يزال مُعلّقاً في حديقة البيت سقطَ من البلابل ما سقط وهرب مَن هربَ                                                                                 والتغاريدُ لا تزال تملأ القفص.

قفص ذكرياتٍ عجيب. أمّا في نصه (رعيّة ص٣٧) يقول: أُشبِهُ الليلَ أو يشبهني لا يهمُّ   كلانا له شؤونهُ الشخصيّةُ وما يقومُ عليه من نجوم الليلُ معقود بسياسة الوقتِ أمّا أنا فمهندسُ نجومي ومديرُ أعمالِها في ليالي ونهاراتِ الورق» أما تعبيره عن ظاهرة عبرَ توصيفه لعودِ الثِّقَاب فيترك انطباعات مثيرةً لدى المُتلقي فيقول في نصّه (حريّة ص١٠١ ):

ليس لدى عود الثِّقَابِ سوى رأسٍ يفقدهُ                                                              ليخرج إلى العالم  ثمنُ الحرية ليس باهظاً على ما يبدو      راسٌ لا أكثر                                                                                                            

************************

تلبُّك

رعـد فاضل

 

لا أعرف لِمَ أنا اليومَ

ما بين شِبه متجهّمٍ

شبهِ سعيد.

سفيرٌ فوق العادة للعزلة بكثير.

لم أعد كما كنتُ

بستانيّاً كدوداً  / أشذّب نفسي

ومَن حولي / أنا من يلعب بطمأنينةٍ

آنَ ينام العالم.

كما كُـبّة خيوط لابِكَة ملبوكَةٍ

هذه الأيّامَ أنا

لا يُعرف له رأسٌمن قدمين.

عرض مقالات: