اخر الاخبار

إندرجت النقدية العراقية قبل منتصف الثمانينيات في ثلاثة أنماط: الانطباعي والأكاديمي والسوسيو اجتماعي، ولكن هذه الانماط تعرّضت الى الازاحة والابدال مابعد منتصف الثمانينيات، حتى تفكّكت الأنظمة الوصفية والمعيارية والانشائية لها، لتتشكل على وفق بنى جديدة، تمتلك حيوات متجدّدة مع قوانين تطور حركة النص الأدبي، لتكون أكثر تمثلا لخصائصه النصوصية والاجناسية باعتبارها بنى متحوّلة باستمرار. وبما ان المناهج النقدية الحديثة هي جزء لايتجزأ من تحوّلات معرفية في العلوم الانسانية، فقد وضعت النقدية العراقية أمام إشكالية مركبة: إما أن تتبنى المنهج بتشكلاته المعرفية الوافدة إليها أو أن تقوم بتبييء المنهج بخوصنة أدواته ومفاهيمه محلياً، وقد نجمت هذه الاشكالية عن المفارقة بين اكتساب الحداثة كرؤية للتغيير، وبين نقل التحديث من دون تغيير. وعلى الرغم من درجة عمق المؤثرات البنيوية والسيمولوجية التي تنافذت الى النقدية العراقية، فإن هذه النقدية لم تتبلور برؤى منهجية مكتفية بذاتها، غير أننا يمكن أن نلحظ أربعة مناهج رئيسية:

  • منهج السوسيو- شعرية.
  • المنهج النصي.
  • المنهج الدلالي.
  • منهج النقد الثقافي.

من حيث منهج السوسيو- شعرية، فقد بدأ فاضل ثامر ناقدا إيديولوجيا، ثم تحوّل نحو الشكلانية الروسية، ليتبنى الــ “المبدأ الحواري “لباختين و” رؤية العالم “لغولدمان، ثم انتهج بعد ذلك منهج السوسيو- شعرية، ولكنه لم يتخل عن جدل الطبقة والايديولوجيا التي ينتمي اليهما في تشكلاته الذاتية والنقدية، إبتداء من كتابه “معالم جديدة في أدبنا المعاصر “وحتى كتابه “شعر الحداثة من بنية التماسك الى بنية التشظي “وصولا الى كتابه “السردي والتاريخي في الرواية  العربية “، وظل في أكثر أنساقه النقدية تمثلا لاطروحات ما بعد الحداثة.

وقد تنبهت الناقدة د. نادية هناوي الى “هذا التحوِّل المفاجئ للناقد فاضل ثامر في إنعطافه من المناهج النقدية والقرائية نحو الأسلوبية ثم عودته غير المبرّرة الى الى الشعرية وفضاءاتها الشكلانية “(1). وقد أقرَّ فاضل ثامر بهذه التعددية المنهجية، بوصفها حلا مشروعا لإشكالات الثقافة النقدية:

“حري بنا أن نؤمن بأهمية تعددية المناهج النقدية وحقها في الحوار والحياة بعيدا عن المصادرة أو فرض منهج أحادي يزعم لنفسه القدرة المطلقة على حل إشكالات الثقافة المتنوعة في مجالات العلوم الاجتماعية والطبيعية “(2).

وقد يتداخل المنهج (النصي) والمنهج (الدلالي) ويتمايزان أحياناً آخر من حيث الأدوات والمفاهيم والتصورات النقدية، ذلك لأنهما يتجهان نحو الشمولية من حيث الافادة من المرجعيات البنيوية والسيمولوجية، وقد تبنين المنهج الدلالي في نقدية د. علي جعفر العلاق، وبخاصة على مستوى كيفية تحليل النص الشعري، وتأويل البنى المتعالقة المتبادلة بين رؤيا النص وبنيته اللغوية، ويمثل كتابه(الدلالة المرئية) الانموذج الأعلى لهذا الإتجاه، ويلتقي مع هذا الاتجاه الناقد سعيد الغانمي في كتابه (أقنعة النص). ويشير الناقد حاتم الصكر في كتابه (الأصابع في موقد النار) الى ان منهجه هو   (منهج النص) في مهاد صريح، ولغرض الملاحظة والمعاينة، فالنصية هنا وان كانت غير النصانية بمفهوم سلفر مان، فان هذه النصية تفترض إمتلاك خاصيتي التحليل والتأويل.

ولكن قبل دخول البنيوية الى النقد العراقي، كانت البنيوية تشكل مركز مدار المناهج الشكلانية والتكوينية، وهي مناهج تمتاح من اللسانية البنيوية لسوسير ومقالات ستراوس. وقد تبنى د. عبدالملك مرتاض البنيوية ثم تخلّى عنها بعد عشرين سنة من تدريسها لطلبته، وكذلك كمال أبو ديب مع انه أول من أدخل البنيوية الى النقدية العربية، فقد أعلن عن تحوّله من البنيوية الى التفكيكية في مهاد صريح،

 وثمة مَن تبنى البنيوية في النقدية العراقية بعد ان تراجعت داخل ثقافتها المنتجة لها، كالدكتور مالك المطلبي، ثم تبنى البنيوية الباحث سلمان كاصد في اطروحته الاكاديمية التي أعدّها فيما بعد في كتاب بعنوان(عالم النص/ إنموذجا) وقد جاء في مقدمة كتابه:

- شرعت في البحث عن المنهج الذي يعنيني على تلمس السبيل الى كشف البؤر المركزية في عالم فؤاد التكرلي، فكانت (المهيمنة) بمفهوم ياكوبسن عوناً في التحرك ضمن إطار هذا العالم.

- أما دراسة البناء الفني، فلا بأس من تبني بعض من مفاهيم المنهج البنيوي لدراسته.

- وكمحاولة أخيرة لتبيَن تعالق نصوص التكرلي مع نصوص أخرى لقصاصين آخرين أو مع نصوصه ذاتها استعنت بالمفاهيم السيميائية التي اضطلعت بها جوليا كريستيفا ومن جاء بعدها.

نكتفي بهذه الفقرات بوصفها مثالاً للكيفية التي تنازعت فيها البنيوية ومهيمنة جاكوبسن وسيميائية كريستيفا هذا النموذج النقدي.

وظهرت “مابعد البنيوية“– فتجاوزت البنيوية ذاتها، وقد انشطرت الى مناهج عدة، ثم اتجهت الى دراسة منظومة الانظمة الاتصالية العلاماتية اللغوية وغير اللغوية، وكانت “الجملة “و” النص “مركز الاختلاف بين مناهج مابعد البنيوية.

 وبذا كانت النقدية العراقية جزء من متاهة نقدية عربية مفتوحة أسماها د. عبد العزيز حمودة بـ (التيه النقدي) في كتابه (الخروج من التيه)، لهذا لم تخرج النقدية العراقية من هذه المتاهة بأي منهج من المناهج النقدية الحديثة، لأنها أكثر نزوعاً الى الانتقال من منهج الى آخر، والتكيّف معه من دون درجة معينة من الثبات أو الاستقرار النسبي، وسبب ذلك ان المنهج الواحد بمرجعياته المستعارة لم يأت نتيجة إستجابة حية لأدبية النص العراقي بقوانينه الداخلية لتمثيل انتصاصه الأدبي. أما د. محسن الموسوي، فقد كانت العناصر الفنية للنص القصصي مركز تحليله النصي، ولكنه شاء الاصطلاح على دراسته لـ “الرجع البعيد “لفؤاد التكرلي و” ظلال على النافدة “لغائب طعمة فرمان بـ (دراسة اسلوبية).

ومن بوابة النقد الأدبي دخل أربعة نقاد الى النقد الثقافي، وهم: د. عبد العظيم السلطاني و د. نادية هناوي و د. بشرى موسى صالح. ولكن ثمة مَن إشتغل على النقد الثقافي من دون المرور بالنقد الأدبي، وخاصة على مستوى وظيفته وتعالقه مع البنى الأخرى، منهم. حيدر سعيد وصادق ناصر الصكر.

إشتغلت د. نادية هناوي على “النقد النسائي” بوصفه فرعا من النقد الثقافي، وذلك لـ “تشييد نقدية مابعد بنيوية لنظرية نسائية عربية تقرّ بأن النسائية ليست واحدة، بل هي متعدّدة إختلافا وإنفصالا بين المتجانسين والمؤتلفين من جهة، ودعما وتحاورا بين المختلفين والمتنافرين من جهة أخرى “(3). وقد حدّدت منهج كتابها “الجسدنة والخط “بـ “منهجية ثقافية “تعنى بـ “تقديم فضاءات نقد نسائية فيها المرأة نص أدبي ومعطى قيمي “(4). وترى من خلال هذه الرؤية الثقافية – ان الأدب النسائي “قد مرَّ بمراحل ثلاث: مرحلة التكوّن (التأسيس) ومرحلة التمكّن (التبلور) ومرحلة التمكين (التفرد) (5). ومن خلال هذه الموجهات قامت بتفكيك النسق النسوي، ومن ثم تفكيك الفحولة الذكورية غير الآبهة بـ “حتمية إعادة الاعتبار للنسق النسوي وإقتراحه معبرا لكتابة نسائية باتجاه التدليل على وعي المرأة ووعي الآخر بها “(6).

وما يعنينا أكثر في ما قدمته د. نادية هناوي في مقاربتها لـ (الانوثة – الذكورة) – الكيفية في الضبط النقدي والمعرفي للأدب النسائي – إصطلاحا ودلالة، وخاصة عند الكشف عن جمالية الأنثى في النقد الأدبي، حيث تقول: “نحن نرجّح كفة مصطلح النسائي على النسوي والانثوي معا من ناحية صرفية بحتة، لامن ناحية نفسية أو بيولوجية “. وبهذا تخالف الرأي الذي يذهب الى “ان الاصح نسوي وليس نسائي، والسبب: أن الأول يعبر عن وعي فكري ومعرفي، فيما يشير الثاني الى جنس بيولوجي فقط “(7).

ولكن قبل ذلك تتفق الدكتورة نادية هناوي مع الدكتور محسن الموسوي في أن النقد الانثوي ليس مجرّد نقد مصدره الانثى، ولكنه يفيض بطاقة الانثى ولهذا لايكتبه الرجال حتى عندما يجارون الحركة النسوية. أما المرأة الناقدة فتكتب شيئا آخر. تكتب السر المعلن ذلك المكنون الاساس للنقد الانوثي أو الانثوي “(8).

من هنا تستعيد الناقدة هناوي الوعي بجمالية الانثى في سياق نقدي جديد من البحث عن الجمالية الانثوية كإنعكاس وفعل لهذا الوعي في تجارب ناقدات عربيات منهن: د. رضوى عاشور وسيزا قاسم وخالدة سعيد.

ونستطيع ان نعد الدراسة التي قدمها حيدر سعيد “الادب وتمثيل العالم “(9). دراسة مكتفية بذاتها في النقد الثقافي، لأنها قائمة على إجتراح مصطلح خاص بها هو “الفكر الادبي “على وفق سياق “الخطاب الادبي، النظرية الادبية، الخطاب النقدي “، غير ان هذه المصطلحات لا تدل عليه، لانه يتشكل من تقاطع الادب مع النقد على وفق تصور ثقافي يتجاوز ما هو أدبي أو نقدي. وعلى الرغم من ان الدراسة إنبنت على تشريح آليات تاريخ النقد الادبي العربي، فإن ما يعنينا منها: ان النقد لم يستطع “ان يصل الى ان يكون تعليلا ً نصيا ً “إلاّ مع ظهور النقد البنيوي، لانه كان محكوما ً بنزعات ذوقية وانطباعية بتأثير الاتجاه اللانسوي وتأثيرات النقد الانطباعي الفرنسي، وتغلب عليه الانشائية من غير منهج واضح.

لهذا تحدّدَ الخطاب النقدي العربي من خلال إشكاليتين؛ إشكالية التقدم وإشكالية الهوية، وقد تحكّمت هذه الاشكالية المزدوجة في توجيه “الفكر الادبي العربي “، وقد إختزل الناقد هذه الاشكالية في سؤالين إشكاليين:

“الاول – ما هو هذا (العالم) الذي ينبغي أن يمثله الأدب؟

الثاني – كيف يتم تمثيل هذا (العالم)؟ “.

ويتتبع الناقد سياق ما توصل اليه د. جابر عصفور من أن مفهوم (المحاكاة) – “هو جزء من مفهوم عام حكم الفكر قاطبة بحقبهِ المتعدّدة ونظرياته   المتعارضة “.

ثم يقوم الناقد بالتمييز بين الادب الاوربي الذي إتجه نحو نقد الحياة أكثر من نقد الكتابة وتجديدها من جهة، وبين الادب العربي الذي إتجه نحو نقد الكتابة أكثر من نقد الحياة وتجديدها من ناحية أخرى.

ويتوقف الناقد عند اهمية “الرومانطيقية العربية “، وقد درجها ضمن “إشكالية الادب والعالم “التي حكمت الفكر الادبي العربي، ثم إقترح ان يكون الأدب تمثيلا ً للذات.

من هنا يرى “إن الفكر الادبي العربي في حقبته الاولى كان فكرا ً أدبيا ًخالصا ً “، وفي حقبته الثانية، “كان ذا إرتباطات ايديولوجية حميمة بالنسبة له “.

وتنبّه الى أن ظهور فكرة “الواقع “لتشغل خانة (العالم) في (إشكالية الادب والعالم) لم يخضع لتطور داخلي في داخل سياق الفكر الادبي العربي، بقدر ما كان مطلبا ً إيديولوجيا ً “يرتبط بـ “علم الجمال الماركسي “، وهذا يعني ان مفهوم  (الواقع) يمثل مسوّغا ً نظريا ً لاستبداله بمفهوم الذات، الذي هيمن على الحقبة الرومانطيقية، اما الحقبة اللاحقة فقد استبدلت مفهوم الواقع بمفهوم (الرؤيا)، وهي تدخل في لجة “إشكالية الادب والعالم “حتى دخل الفكر الادبي العربي في فضاء إشكالي جديد.\

ـــــــــــــــــــــــ

*كاتب وناقد/ رئيس تحرير مجلة “الاديب الثقافية”.

عرض مقالات: