بعد الخلاص من النظام الدكتاتوري سنة ٢٠٠٣ تطلّع عموم العراقيين  الى  إقامة بديل ديمقراطي بكل ما تعنيه  الديمقراطية من نهج وأسلوب حكم وممارسة وحريات وقيم، وان يجري تداول سلمي حقيقي للسلطة عبر انتخابات نزيهة وعادلة، تتيح للمواطنين حرية الاختيار بعيدا عن الاكراه وضغط السلاح وشراء الذمم واستخدام المال السياسي واملاءات الانتماءات الفرعية بكل أنواعها، وان يتم ذلك على الصعيد الاتحادي كما في الإقليم والمحافظات .

ولم يتحقق هذا البديل المرتجى، لكن المطلب يظل قائما ولا يمكن ان يسقط بتقادم السنين، ومن دون تحقيقه تبقى الأمور تتراجع، وفي احسن الأحوال تظل تراوح في مكانها ، فيما الزمن يتقدم.

وقد قيل الكثير عن أسباب وعوامل ذلك، ولماذا لم يقطف العراقيون ثمار نضالهم وتضحياتهم الجسام في بناء بلدهم على افضل ما يكون، حتى قياسا الى دول المنطقة، وبما يملك من إمكانيات وموارد وقدرات مالية؟

لا ريب في ان وراء ذلك مجموعة واسعة من المسببات، ومن الصعب قصرها على سبب واحد اوحد. البعض يرجع ذلك الى الاحتلال ومشاريعه، وبعض آخر الى تركة النظام المقبور وعصابات الإرهاب، القاعدي والداعشي، وثالث الى التدخلات الخارجية. كما يجري الحديث عن غياب الفعل السياسي المعارض المؤثر،  ويضيف آخرون، وهم على حق، الاستغلال السياسي للمشاعر الدينية والمذهبية والطائفية والقومية، وتوظيفها لخدمة مصالح ضيقة عبر طرحها على انها مصالح مكوّن معين ، في حين ان واقع حال غالبية هذه المكونات يفند ذلك، وهو ما عبّرت عنه المشاركة الواسعة في الفعاليات والنشاطات والاضرابات والاعتصامات  وفي انتفاضة تشرين المجيدة عام ٢٠١٩ .

نعتقد ان هذه الاسباب مجتمعة ومع غيرها ربما، هي ما كوّنت صورة الواقع الراهن، وبدلا من التوجه الى بناء نظام ديمقراطي حقيقي، تم بناء نظام محاصصاتي لا صلة له باي أساس من الديمقراطية. وقاد هذا النظام الزبائني ليس الى تشويه الديمقراطية وقيمها ومعانيها فقط، بل ووفّر الحماية للفاشلين والفاسدين، وحصل تخادم بين العناصر المستفيدة من هذا النظام المحميّ بعناصر القوة والعنف والسلاح، التي يتحرك بعضها باسم “شرعية الدولة”، فيما هو بعيد جدا عن الالتزام بقوانين الدولة وسياستها العامة، خاصة في المجالين العسكري والأمني،  وذلك ما تؤكده التطورات الأخيرة بشكل جلي .

وعمدت هذه الأقلية الحاكمة من اجل تأبيد سلطتها وتأمين مصالحها، الى تشريع عدد من القوانين بضمنها قانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات. وهو القانون الذي لم يستقر على حال منذ ٢٠٠٥، وفي كل مرة يتم تعديله باتجاه المزيد من تأمين الاحتكار  للسلطة، بدل توفير الامكانية الفعلية للتنافس الحر والعادل والمتكافئ .

 ان الوضع في العراق واقعا ابعد واعقد من قضية انتخابات مجالس المحافظات على أهميتها، وابعد من اختصار راهن الحال  بمسألة المقاطعة او المشاركة في الانتخابات، فهو في نهاية المطاف يتعلق بمنظومة الحكم ونهجها، وبإمكانية دحرها عبر فرض البديل للنظام المحاصصي – المكوناتي، وبناء اصطفاف سياسي وشعبي واسع لقلب موازين القوى، وكسر احتكار السلطة. وما الانتخابات، سواء التي جرت للتو لمجالس المحافظات او حتى القادمة،  الا محطات، فيما يبقى التعويل في كل الأحوال على نهوض جماهيري واسع منظم واضح الأهداف. وما زالت هذه المهمة قائمة وتمس الحاجة اليها، وان تحقيقها يتطلب قبل كل شيء تجاوز حالة الانتظار، والخروج من اللافعل الى الفعل المنظم، وهنا ثمة دور للعازفين والمقاطعين للانتخابات أيضا، وبعكسه ستقتنص القوى المتنفذة والحاكمة الفرص  .

وان تحقيق هذه الانعطافة مرهون بالمواطنين عموما، بالغالبية المكتوية بنارالازمات، وبجدية وفاعلية القوى الرافضة للمنهج الراهن في إدارة الدولة وبناء مؤسساتها، ومدى قدرتها على توفير مقومات نهوض جديد لا غنى عنه. وهذا هو التحدي امام قوى التغيير.  

نودع العام المنتهي ونستقبل عام ٢٠٢٤، وثقتنا راسخة بشعبنا وشبابه وقواه الحية الخيرة، وبقدرتهم اللامحدودة على اجتراح المآثر والبطولات. وكما أبلى المنتفضون بلاء حسنا في  انتفاضة تشرين المجيدة، فانهم  قادرون أيضا على تجديدها والمضيّ بها حتى نهايتها المظفرة .

عرض مقالات: