اخر الاخبار

“حتى الأمطار لم تعد مجدية لإنقاذ أرضي”.. بهذه العبارة يصف رعد كاظم (٥٧ سنة)، وهو مزارع سابق من ناحية النشوة شمال شرقي البصرة، صراعه غير المتكافئ مع الانبعاثات الغازية لحقول النفط التي تنتشر في المنطقة وتحوّل مزارعها الى أراض جرداء.

 وتختلط مكونات الانبعاثات مع ماء المطر، فتحرق غالبية بذور الفجل والحلبة والبطيخ، فضلا عن فسائل النخيل، في مزرعة كاظم التي هجرها قبل سنوات. فيما لم تكن محاولة سقيها بمياه الآبار مجدية، بسبب ارتفاع نسبة ملوحتها، وكذلك الحال بالنسبة لمياه شط العرب، الأمر الذي اضطره إلى ترك الزراعة، والتوجه للتعليم في مدرسة ابتدائية، مستثمرا شهادته الجامعية.

كاظم المسؤول عن إعالة أسرة قوامها 12 فرداً، لم تصمد في أرضه سوى أشجار النخيل البالغة، كما هو الحال في أراضي جيرانه.

يقول في حديث صحفي، أن “ليست انبعاثات النفط وملوحة المياه هما فقط من أثر على أراضينا، فللحرب تأثيرها أيضا”، مبينا أن “المنطقة كانت تضم ثكنات عسكرية خلال الحرب العراقية – الإيرانية، ما جعلها عرضة للقصف. كذلك في حرب الخليج 1991، قصفت القوات الأمريكية الجيش العراقي بناحية النشوة، فانهالت على أراضينا قذائف وصواريخ تحتوي على اليورانيوم، ما أثر سلبا على سلامة التربة، وهذا ما أكده لنا اختصاصيون زاروا منطقتنا”.

الديون تثقل كواهل المزارعين

مروة عبد الكاظم (26 سنة)، مزارعة من ناحية النشوة، تبعد منشأة نفطية تابعة لـ “حقل مجنون” عن مسكنها ومزرعتها نحو 10 كيلومترات.

 تقول في حديث صحفي أن زوجها ترك الزراعة منذ سنوات، وهو حاليا يعمل كاسباً، لأن الأرض لم تعد صالحة للزراعة، وإنتاجها غير مجد اقتصاديا “بسبب الجو الملوّث والماء المالح، وتكاليف الحرث والبذور والمبيدات الزراعية الباهظة”.

وتضيف قائلة: “كنت أعمل مع زوجي في الزراعة، وكنا نزرع البامية واللوبيا والشبت والباقلاء، لكن في السنوات الأخيرة بدأ الإنتاج يتناقص والزرع يموت على الرغم من اهتمامنا به، حتى لم يعد بمقدورنا تسديد الديون المتراكمة علينا من بيع ما نحصده، لقلته”.

 600 شركة نفطية

تضم البصرة نحو 600 شركة نفطية، نشاطها يضع السكان أمام خطر الانبعاثات المصاحبة لاستخراج النفط، والتي تؤثر على حياة الإنسان وسلامة أعضائه.

ووفقا لما تنقله وكالات أنباء عن خبراء في الصحة والبيئة، فإن التلوث البيئي الذي تسببه انبعاثات النفط يؤدي إلى أمراض خطيرة وتشوهات خلقية، فضلا عن أضراره التي يخلفها في الثروة الحيوانية والنباتات.

وفي ناحية النشوة المحاطة بحقلين نفطيين كبيرين، يبدو التلوث ماثلا على مستوى التربة والماء والهواء.

يقول مدير الناحية وليد المياحي، أن النشوة محاطة بحقلين نفطيين، الأول حقل مجنون العملاق، الذي يبعد فقط 50 كيلومتراً عن المنازل، والآخر هو “حقل الفيحاء” الذي يبعد عن المنازل 25 كيلومترا. فيما تبعد منشأتان نفطيتان تابعتان لحقل مجنون، نحو 200 متر عن السكان.

ويؤكد في حديث صحفي، أن “سكان الناحية الذين تتراوح أعداهم بين 35 و40 الف نسمة، يعانون جراء ذلك. فإلى جانب التحديات الصحية، تعرضوا لخسائر جسيمة إثر تضرر مزارعهم وبساتينهم، وفقدانهم الكثير من مواشيهم. ويأمل المياحي من الحكومة تخصيص مبالغ مالية لإنعاش المنطقة اقتصاديا، وتعويض الأهالي عن الخسائر التي لحقت بهم.

 أهم مصادر التلوث

رشا عبد الحسين، مديرة إعلام مديرية حماية وتحسين البيئة في المنطقة الجنوبية، تقول أن “حقول النفط القريبة من التجمعات السكنية، مثل مجنون والفيحاء والرميلة والزبير، تعد من أهم مصادر تلوث التربة في المنطقة. إذ تتعرض التربة مباشرة للمخلفات النفطية المضرة، ما يؤدي إلى تصحرها وتدمير الغطاء النباتي فيها”.  وتتابع في حديث صحفي قولها أن “ذرات التربة عندما تتطاير في الجو يستنشقها السكان، وهذا يمثل التحدي الأول للصحة العامة”، مشيرة إلى أن “التلوث في البصرة لا يقتصر على انبعاثات الحقول النفطية، فقائمة الملوثات تضم الى جانب ذلك مياه الصرف الصحي التي تطرحها الشركات النفطية ومحطات الكهرباء والمصانع في شط العرب”.

أمرٌ معقد

في السياق، ترى أستاذة الجغرافيا في جامعة ذي قار د. منار ماجد حميد، أن “تأثير الانبعاثات النفطية على الاراضي الزراعية أمرٌ معقد. فهي تصل الى باطن الأرض عن طريق التساقط المطري والتفاعل الكيميائي والتساقط الجاف والامتصاص، وتؤدي بذلك الى تشكيل مركبات كيميائية ثابتة ترتبط بتلوث العناصر المادية من هواء وماء وتربة ارتباطاً وثيقاً”.

وتوضح في حديث صحفي أنه “إذا اخذنا التربة كمثال، سنجد أن الهواء يتخلل حبيباتها، كما أن مياه الري والأمطار أو المياه الجوفية قد تغمرها أو تبللها أو تتخللها، وبالتالي فإن أي اضطراب في أحد النظم يؤدي إلى اضطراب البقية”.

وتؤكد د. منار أن المحافظة على خصوبة التربة الزراعية مهم بشكل كبير لضمان المستوى العالي للإنتاج الزراعي، الذي بدوره يشجع على استقرار حياة شريحة كبيرة من السكان المزارعين، وتوفير مصدر اقتصادي ثابت لهم، وهذا بالنتيجة يُحسن من الوضع المناخي والبيئي.

 خسائر كبيرة

إلى ذلك، يعدد هادي سعدون، وهو باحث في مجال التربة من سكان ناحية النشوة، المشكلات التي تعانيها الأراضي الزراعية في منطقته، وهي: “كثرة الصخور، رص التربة بالآليات الكبيرة والدبابات في عهد النظام المباد، وتساقط الأمطار الملوثة بانبعاثات الحقول النفطية”، مبينا في حديث صحفي ان “هذه العوامل مجتمعة أثرت على الزراعة في النشوة وتسببت في خسائر كبيرة للفلاحين”.

وكانت تلك المشكلات تقض مضجع المزارع أبو علي (63 سنة)، الذي تبعد أرضه ومسكنه، نحو 25 كيلو متراً عن حقل الفيحاء. إذ أضطر منذ سنتين إلى ترك الزراعة والعمل في فرن.

يقول في حديث صحفي أنه ورث مهنة الزراعة عن والده، وأن أرضهم كانت تضم الكثير من أصناف الأشجار، أما الآن فلم يبق فيها سوى بضعة شجيرات نبق، لا يسد حاصلها شيئا من تكاليف العناية!

ويرى أن “الزراعة أصبحت مضيعة للوقت والجهد، ما دامت حقول النفط تبث سمومها ليل نهار بقربنا”!