"حتى الأمطار لم تعد مجدية لإنقاذ أرضي" بهذه العبارة، يصف سعد كاظم، مزارع من ناحية النشوة شمالي البصرة.
ويمثل كاظم نموذجاً لمزارعين كثيرين في البصرة، وجدوا أنفسهم في مواجهة تدهور التربة وارتفاع مستويات التلوث الناجم عن الصناعات النفطية، حيث تختلط الانبعاثات الكيميائية مع أمطار الشتاء، ما يجعلها تمطر كمواد حارقة تقتل البذور في المهد.
يقول كاظم: "كانت مزرعتي تكتسي بالخضرة وتغذي المنطقة بالبقول والخضراوات، مثل الفجل والحلبة والخيار والبطيخ وحتى النخيل، لكن كل شيء تحول إلى رماد".
ويضيف بأسى أن "محاولاته المتكررة لريّ الأرض بمياه الآبار لم تكن مجدية، حيث باتت المياه مالحة إلى درجة تفوق قدرة النباتات على التحمل. حتى مياه شط العرب، القريبة من مزرعته، لم تعد قادرة على تلبية احتياجات المزارعين، بعد ارتفاع نسبة الملوحة فيها بشكل حاد، بسبب تأثير التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة".
أجبر تدهور الأرض وارتفاع تكلفة الزراعة سعد على ترك زراعته والتوجه إلى التدريس في مدرسة ابتدائية، مستثمراً شهادته الجامعية من كلية التربية بجامعة البصرة، ليضمن دخلاً يعين أسرته. لكن رغم ذلك، يبقى الحنين للأرض والمزرعة راسخاً في قلبه: "الزراعة في دمي، لكنها اليوم صارت مستحيلة"، يقول كاظم بصوت مفعم بالحسرة.
تحديات بيئية كثيرة
ولا تقتصر معاناة كاظم على فقدان أرضه، إذ يواجه مئات المزارعين في المحافظة تحديات بيئية مشابهة، من بينها التلوث الهوائي وزيادة مستويات الكبريت في الجو، الناتجة عن احتراق الغاز المصاحب لاستخراج النفط. ويتسبب هذا الوضع في إصابة العديد من النباتات بالأمراض، ويزيد من صعوبة الزراعة في المحافظة التي كانت تعد من أخصب المناطق الزراعية في العراق.
يقول سعد، ان "هناك من استغل هذه الظروف وحول الأراضي إلى مشاريع استثمارية بشكل غير قانوني، مستغلين مناصبهم ونفوذهم".
وتواجه محافظة البصرة تحديات كبيرة فيما يتعلق بالأراضي الجرداء، حيث تقول ظمياء أمين ناصر أن معظم هذه الأراضي تم توزيعها كقطع سكنية من قِبل المحافظة. وفي الوقت نفسه، قام العديد من الأهالي بتحويل أراضيهم الزراعية إلى سكنية بسبب ارتفاع نسبة الملوحة، ما أدى إلى تدهور الإنتاج الزراعي، ودفع السكان لاستغلالها في البناء بدلاً من الزراعة.
وتضيف ظمياء، رئيس جمعية السياب لحقوق الانسان، أن "القوانين المتبعة سابقاً كانت تسمح بتحويل الأراضي من الزراعة للسكن، إلا أن التغيرات البيئية كالجفاف وارتفاع الملوحة أثرت بشكل كبير على الزراعة المحلية".
وتشير ظمياء الى أن الدولة اتجهت نحو استيراد المواد الغذائية بدلا من دعم الزراعة المحلية، مدفوعة جزئياً بالمصالح الاقتصادية والسياسية، ما أضعف دعم المزارعين المحليين، وتركهم دون مساندة فعّالة في مواجهة هذه التحديات.
إضافة إلى ذلك، تذكر ظمياء أن "هناك شريحة من الأهالي تعاني حالياً نتيجة رفض الدولة تحويل تصنيف أراضيهم، حيث أن هذه الفئة تعتمد على الزراعة التي لم تُدعم حكومياً سواء من ناحية توفير المياه أو الأسمدة".
وتختتم رئيس جمعية السياب لحقوق الإنسان حديثها بالتأكيد على "أهمية معالجة هذا الوضع عبر سياسات توازن بين الحاجة إلى البناء وتوفير السكن من جهة، ودعم القطاع الزراعي والمزارعين من جهة أخرى، لضمان حقوق جميع الأطراف وتحقيق التنمية المستدامة في البصرة".
الملوحة تحجّم الزراعة
د. جاسم المالكي، استشاري بيئي وعضو المكتب الاستشاري لنقابة المهندسين الزراعيين، يقول ان "الدراسات البيئية الحديثة تشير إلى أن محافظة البصرة تواجه تحديات كبيرة في استغلال الأراضي، وذلك بسبب التصحر المتزايد وارتفاع نسبة ملوحة التربة. بحسب التقديرات المستندة إلى صور الأقمار الصناعية، فإن حوالي 89 في المائة من أراضي المحافظة، تصنّف كأراضٍ غير مستغلة. بينما لا تشكّل الأراضي الزراعية سوى 4.5 في المائة من المساحة الكلية، إلى جانب 2.5 في المائة من المسطحات المائية".
وبالنظر إلى المناطق الغربية من البصرة، التي يغلب عليها المناخ الصحراوي، يذكر المالكي لـ "طريق الشعب"، أن "الاعتماد على المياه الجوفية فيها يُتيح زراعة بعض المحاصيل المحدودة، مثل الطماطم. إلا أن الملوحة العالية في التربة تقف عائقاً أمام توسيع نطاق الزراعة".
وعند الحديث عن المناطق الجنوبية، بدءاً من الفاو وصولاً إلى شط العرب، يلاحظ الاسدي أن "هذه المناطق كانت مزدهرة زراعياً في السابق، لكنها تضررت بشدة مؤخراً بسبب زيادة ملوحة مياه شط العرب، ما أدى إلى تدمير البساتين وتدهور القطاع الزراعي. ومع تحويل مساحات من هذه الأراضي إلى مناطق سكنية، فقدت البصرة جزءاً كبيراً من قدرتها الزراعية في هذه المناطق".
أما بالنسبة للمناطق الشرقية، فيذكر المالكي أن "هناك ما يقارب 800 كيلومتر مربع من الأراضي غير المستغلة، التي تعاني من ملوحة التربة، إضافة إلى وجود منشآت نفطية في مساحات شاسعة منها، ما يمنع استغلالها زراعياً. ومع أنه يمكن استصلاح هذه الأراضي بإطلاق مشاريع مائية، إلا أن الجهات المعنية لم تولِ حتى الآن هذا الموضوع الاهتمام الكافي".
وعند النظر إلى الأراضي الزراعية المتبقية على ضفتي دجلة والفرات، يشير المالكي إلى أن "هذه الأراضي، في مناطق مثل القرنة والدير والنشوة، لا تزال تحافظ على نشاط زراعي محدود يتمثل بزراعة البساتين والخضراوات، إلا أنها تشكل نسبة صغيرة جداً من إجمالي المساحات".
وعلى الرغم من هذه التحديات، يؤكد المالكي أن "هناك إشارات إيجابية في الآونة الأخيرة، حيث شهدت المناطق الصحراوية الغربية توسعاً في زراعة الحنطة، مستفيدين من تقنيات الري الحديث. ومع ذلك، يُبرز المالكي أهمية الدعم الحكومي لتطوير البنية التحتية في هذه المناطق، ما من شأنه تعزيز الاستدامة الزراعية وتحقيق الاستفادة القصوى من الأراضي المتاحة".