يعاني القطاع الصحي في العراق من أزمة حادة تتمثل في ارتفاع أسعار الأدوية والنقص الكبير في المستلزمات الطبية، ما يثقل كاهل المواطنين، خاصة ذوي الدخل المحدود.
ويعتمد العراق بشكل شبه كامل على استيراد الأدوية، ما يسهم في ارتفاع الأسعار وتفاقم الأزمة.
وبرغم محاولات الحكومة وضع تسعيرة موحدة للأدوية، إلا أن التدخلات السياسية والمصالح الاقتصادية تعيق اتمام ذلك. في المقابل، تسعى الجهات المعنية لتوطين الصناعة الدوائية المحلية كحل مستدام لتوفير الأدوية وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
أسباب سياسية تعرقل ضبط الأسعار
يقول عضو لجنة الصحة في البرلمان، باسم الغرابي، إن “ملف الأدوية والعلاجات في العراق يعاني من مشكلات كبيرة، أبرزها تفاوت الأسعار وغياب التسعيرة الدوائية الموحدة، وهو أمر مستمر منذ أكثر من 12 عامًا. للأسف، هذا الملف يخضع لتأثيرات الأحزاب الحاكمة وبعض الشخصيات النافذة، ما أدى إلى عدم تحقيق أي تقدم يذكر في ضبط الأسعار أو تحسين نظام الرقابة".
ويضيف الغرابي في حديث لـ "طريق الشعب"، أن “التسعيرة الدوائية التي كان من المفترض تطبيقها منذ عام 2009 لم تُنفذ حتى الآن. وهذا التأخير فسح المجال أمام ممارسات غير قانونية، منها احتكار الأدوية وتهريبها وبيعها بأسعار متفاوتة في الصيدليات. وقد أثرت هذه الفوضى بشكل مباشر على المواطن العراقي، الذي يعاني من ارتفاع أسعار العلاجات وغياب الرقابة الفاعلة من قبل وزارة الصحة ونقابة الصيادلة”.
وأشار إلى أن “موضوع الضمان الصحي، الذي كان من المفترض أن يشمل جميع العلاجات، لا يزال يُطبق بصورة متواضعة جدًا رغم إقرار القانون في الدورة الانتخابية الرابعة السابقة. حتى العقود المبرمة لتطبيق نظام الضمان الصحي تسير بخطى بطيئة بسبب ضعف التنسيق بين الجهات المعنية".
تفاوت في الأسعار
وفيما يتعلق بالرقابة على الأدوية، يقول الغرابي: ان “هناك خللا كبيرا في عمليات فحص الأدوية واعتمادها. على سبيل المثال، شهدت الفترة الماضية نزاعًا بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان بشأن فحص الأدوية، حيث ألغت وزارة الصحة الاعتراف بنتائج الفحوصات الصادرة من الإقليم، مشددة على ضرورة إجراء الفحوصات داخل العراق. ومع ذلك، فإن مراكز فحص الأدوية في العراق قليلة وغير كافية لتلبية الحاجة".
وأوضح الغرابي، أن هناك تفاوتًا كبيرًا في أسعار الأدوية داخل الصيدليات بسبب ضعف الرقابة، بالإضافة إلى وجود أدوية غير مفحوصة وغير معتمدة تُباع بأسعار مرتفعة. الأسوأ من ذلك، أن بعض الاتفاقات بين الأطباء وبعض الصيدليات تساهم في الترويج لأدوية غير مفحوصة، مما يعرّض حياة المرضى للخطر.
وأضاف، أن "الصيدليات التي تبيع الأدوية بأسعار منخفضة تعرضت إلى تضييق كبير، ووصل الأمر إلى إغلاق بعضها بذريعة أنها تضر بالتوازن بين الصيدليات. وهذا أمر غير مقبول لأنه يمنع المنافسة العادلة بدلًا من تشجيعها".
واختتم الغرابي بالقول: "إن حل هذه المشكلات يتطلب تدخلًا حكوميًا عاجلًا وتشريعات جديدة لضبط أسعار الأدوية وتعزيز الرقابة. كما نحتاج إلى إنشاء هيئة دوائية عراقية مستقلة للإشراف على تسعير وفحص الأدوية بعيدًا عن تأثير وزارة الصحة. بالإضافة إلى ذلك، يجب التنسيق مع المنظمات الدولية لتطبيق معايير موحدة لفحص واعتماد الأدوية كما هو الحال في دول الخليج. إن غياب هذه الخطوات سيجعل المواطن العراقي هو المتضرر الأول والأخير من هذه الفوضى".
مرضى عاجزون عن توفير العلاج
يقول الصيدلاني محمد العظماوي، وهو ناشط في القطاع الصحي، ان واحدة من أبرز المشكلات التي تؤرق العراقيين، وهي ارتفاع أسعار الأدوية بشكل كبير، ما يشكل عبئًا ثقيلاً على الأسر ذات الدخل المحدود. فالكثير من المرضى يجدون أنفسهم عاجزين عن تأمين الأدوية والمستلزمات الطبية الضرورية، في ظل نقص حاد في الأدوية داخل المستشفيات الحكومية"، مشيرا الى ان هذا النقص يجبر المرضى على اللجوء إلى الصيدليات الخارجية لشراء الأدوية بأسعار مرتفعة جدًا، تفوق قدرتهم المادية في كثير من الأحيان، وفي الكثير من الاحبان يعزفون عن الشراء.
ويوضح العظماوي لـ "طريق الشعب"، أن المشكلة ليست حديثة العهد، حيث حاولت الحكومات المتعاقبة إيجاد حلول من خلال وضع تسعيرة موحدة وثابتة للأدوية في جميع أنحاء البلاد، إلا أن هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح، ولم تنجح في تحقيق الغرض المطلوب، وفقا للعظماوي.
وأشار إلى أن القطاع الصحي في العراق يعاني من مشكلات جوهرية، أهمها الاعتماد شبه الكامل على استيراد الأدوية. وأوضح، أن شركة كيمياديا، التابعة لوزارة الصحة والمسؤولة عن استيراد الأدوية وتوزيعها على المستشفيات والمذاخر الأهلية، تلعب دورًا محوريًا في هذا الملف. ومع ذلك، فإن هذه الشركة تواجه اتهامات مستمرة بوجود شبهات فساد.
وأكد العظماوي، أن عملية توفير الأدوية تمر بمراحل طويلة ومعقدة، تبدأ بإقرار نوع العلاج، ثم يمر بالفحص لضمان سلامته، قبل أن يُسمح بتداوله في الأسواق، غير أن الإجراءات الإدارية المرتبطة بهذه العملية تستغرق وقتًا طويلاً داخل وزارة الصحة، ما يؤدي إلى تأخر توفير الأدوية.
وأضاف، أن العراق يشهد بين الحين والآخر فقدانًا للأدوية الأساسية، بينما تُتاح في السوق أدوية مهربة وغير مفحوصة، غالبًا ما تكون منتهية الصلاحية أو غير معتمدة رسميًا.
ويكشف على أن غياب الأدوية المفحوصة يدفع بعض الصيدليات إلى اللجوء إلى استيراد أدوية مهربة من مصادر غير موثوقة. هذه الأدوية لا تخضع لأي رقابة صحية، لكنها تجد طريقها إلى رفوف الصيدليات، حيث تباع بأسعار مضاعفة.
وكان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ذكر في مطلع عام 2023، أن العراق ينفق حوالي ثلاثة مليارات دولار سنويًا على استيراد الأدوية.
فوضى عارمة
وفي السياق، يقول الصيدلي الممارس زيد شبيب أن "السوق الدوائي في العراق يعاني من فوضى عارمة نتيجة غياب التسعيرة الموحدة، وهيمنة جهات مسلحة وأطراف سياسية على عملية استيراد وتوزيع الأدوية"، طبقا لحديثه.
وقال شبيب لـ "طريق الشعب"، أن "المحاولات التي قامت بها وزارة الصحة بالتعاون مع النقابات لفرض تسعيرة موحدة للأدوية لم تنجح، بسبب التدخلات السياسية والمصالح الاقتصادية التي تعيق أي جهد جاد لتنظيم السوق".
واضاف شبيب، أن "غياب التنظيم أدى إلى تفاوت كبير في أسعار الأدوية، حيث تُباع بعضها بأسعار مرتفعة للغاية تفوق قدرة المواطن، بينما تُباع أخرى بأسعار أقل من قيمتها الحقيقية، نتيجة لإغراق السوق بمنتجات ذات جودة منخفضة"، مضيفاً أن "هذه الفوضى تعكس غياب الرقابة وضعف التخطيط في عملية استيراد الأدوية، حيث يتم استيراد كميات ضخمة من أدوية لا يحتاجها السوق العراقي فعليًا، ما يسبب تخمة في المعروض، ويضر بالاقتصاد الوطن".
وبالحديث عن أكبر المشكلات التي تواجه السوق الدوائي، يبين شبيب انها تعود لتدخل الميليشيات وجهات سياسية متنفذة في عملية الاستيراد، حيث تتحكم هذه الجهات في استيراد أنواع معينة من الأدوية وتفرض احتكارًا على أصناف محددة، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه. كما أن دخول الأدوية المهربة وغير القانونية للسوق العراقي يزيد من الفوضى، حيث تباع هذه الأدوية بأسعار زهيدة دون رقابة على جودتها، ما يهدد حياة المرضى.
وفيما يتعلق بقطاع الصيدلة، أشار شبيب إلى أن مهنة الصيدلة أصبحت تجارة ربحية بحتة بسبب استحواذ بعض الصيادلة على عدد كبير من الصيدليات عبر شراء أو تأجير الامتيازات، ما أضعف الالتزام المهني وفتح الباب أمام استغلال السوق من قبل عدد محدود من الأشخاص الذين يهيمنون على توزيع الأدوية.
ودعا شبيب إلى وضع خطة شاملة لمعالجة الأزمة تبدأ بتقنين عملية الاستيراد لتقتصر على شركات معروفة وذات جودة، بدلاً من الاعتماد على مئات الشركات من دول متعددة تغرق السوق بمنتجاتها. كما شدد على ضرورة دعم الصناعات الدوائية المحلية لتلبية جزء كبير من احتياجات السوق.
وأكد أن ضبط الحدود لمنع تهريب الأدوية يمثل خطوة أساسية لضمان استقرار السوق، مع أهمية وضع آليات واضحة وشفافة لتسعير الأدوية تأخذ في الاعتبار احتياجات المرضى والوضع الاقتصادي للصيادلة.
واختتم شبيب بالتأكيد على أن الحلول التقنية والتنظيمية لن تنجح دون وجود إرادة سياسية قوية تضع مصلحة المواطن فوق كل اعتبار. كما دعا إلى تفعيل القوانين التي تنظم السوق الدوائي وتعديلها لتتماشى مع التطورات الحالية، مشيرًا إلى أن المريض العراقي، لا سيما من يعاني من الأمراض المزمنة، هو الأكثر تضررًا من استمرار الفوضى في السوق الدوائي.
نقص في التمويل المالي
وذكر المتحدث الرسمي لنقابة صيادلة العراق، د. أسامة هادي حميد، بأن "النقابة تعزو أسباب نقص الأدوية والمستلزمات الطبية في بعض المستشفيات إلى نقص التخصيصات المالية، حيث إنّ التخصيصات الحالية لا تغطي الكمية والنوعية المناسبة من الأدوية الضرورية للمرضى".
وأوضح حميد لـ"طريق الشعب" أن "العراق يحتوي على 28 معملاً لإنتاج الأدوية، تشمل القطاعين العام والخاص"، مشيراً إلى أن "هذه المعامل تنتج مجموعة واسعة من المستحضرات الدوائية، تتنوع بين المسكنات والمضادات الحيوية، وتمتد إلى أدوية الأمراض المزمنة وعلاج الأمراض السرطانية".
وأضاف حميد، أن "هناك عدداً من مشاريع المعامل الدوائية بانتظار الموافقات للحصول على إجازة البدء بالإنشاء"، مبيناً أن "ذلك يعكس رغبة المستثمرين في تطوير قطاع الصناعة الدوائية الوطنية، بما يسهم في تعزيز الصحة العامة وزيادة الوعي الصحي في البلد".
وأشار إلى أن "الحكومة، ممثلة بوزارتي الصحة والصناعة والجهات الساندة، تعمل على تقديم التسهيلات اللازمة لتوطين الصناعة الدوائية الوطنية وحماية المنتج الوطني".
واختتم حميد قائلاً: إن "نتائج توطين الصناعة الدوائية الوطنية ستظهر بشكل واضح خلال السنوات الخمس القادمة على أقل تقدير، ما يسهم في تحقيق حالة من الاكتفاء الذاتي أو شبه الذاتي من الأدوية والمستلزمات الطبية للقطاعين العام والخاص".