تعيش محافظة نينوى، تحديات صحية وبيئية متشابكة تعكس حجم الأزمات التي خلفتها الحرب والإهمال وسوء التخطيط؛ فعلى الرغم من مرور سنوات على تحرير المدينة من سيطرة تنظيم داعش، لا تزال آثار الحرب تُلقي بظلالها الثقيلة على البنية التحتية الصحية والبيئية، في وقت يعاني فيه السكان من نقص حاد في الخدمات الطبية، وارتفاع معدلات الأمراض، وعلى رأسها الإصابات السرطانية.
واقع صحي هش
يقول سعد الوزان، مراقب للشأن المحلي في نينوى، أن "القطاع الصحي في المحافظة يعاني من أزمات حادة تفاقمت بعد تحرير المحافظة من سيطرة تنظيم داعش"، مشيراً إلى أن "العمليات العسكرية ألحقت أضرارًا بالغة بالبنية التحتية الصحية، حيث تضررت العديد من المستشفيات بشكل كبير".
ويبين الوزارة لـ "طريق الشعب"، أن المحافظة تمتلك حوالي 2000 سرير فقط، وهو رقم لا يرقى إلى تلبية احتياجات السكان المتزايدة. ومع ذلك، وعدت الحكومة المحلية بزيادة العدد إلى 6000 سرير عبر مشاريع جديدة ومستمرة، لكن الإنجاز على أرض الواقع لا يزال يواجه تحديات كبيرة.
ويضيف، أنه "من بين المشاريع القائمة حاليًا، يبرز مستشفى الطوارئ "أم الربيعين"، الذي تجاوزت نسبة إنجازه 90 في المائة، بينما تواجه مشاريع أخرى مثل مستشفى "ابن سينا" في الجانب الأيمن من الموصل عرقلة بسبب تأخر المصادقة على التصاميم. هذه العراقيل تعكس واقعًا صحيًا هشًا لا يتناسب مع حجم التحديات التي تواجهها المحافظة".
لا توجد أجهزة تخصصية
ويلفت الوزان إلى مستشفى علاج الأورام السرطانية أحد أبرز نقاط الضعف في نينوى، التي يعتمد تمويلها على برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، ولكن الشركة المنفذة للمشروع وُصفت بأنها "سيئة للغاية". وكان من المفترض أن يكتمل المشروع بنهاية عام 2022، إلا أن التأخير لا يزال سيد الموقف".
ويشير إلى، أن "الافتقار إلى الأجهزة التخصصية لعلاج السرطان يُجبر المرضى على السفر إلى مدن أخرى مثل أربيل، بغداد، النجف، وكربلاء، أو حتى خارج العراق إلى دول مثل تركيا والهند لتلقي العلاج. هذا العبء الإضافي يفاقم من معاناة المرضى وأسرهم".
وبالحديث عن نسب السرطان في نينوى، يبيّن أن "لمشهد الصحي في نينوى يزداد تعقيدًا مع تسجيل زيادة ملحوظة في حالات الإصابة بمرض السرطان. ورغم غياب الإحصائيات الرسمية، تشير تقارير غير معلنة إلى اكتشاف 1800 حالة إصابة جديدة خلال الربع الأخير من عام 2024 فقط".
ويؤكد، أنّ "سكان نينوى بانتظار تنفيذ الوعود الحكومية لتحسين القطاع الصحي وتوسيع طاقته الاستيعابية، في ظل واقع مرير يتطلب حلولًا عاجلة وجدية".
معدلات طبيعية؟
يقول د. عبد القادر سالم، مدير مستشفى الأورام في الموصل، أن "حالات الإصابة بالسرطان في المحافظة لا تزال ضمن المعدلات الطبيعية، بما يتماشى مع النسب العالمية، ولا يوجد ما يدعو للقلق"، موضحا أن التزايد السنوي في الإصابات يرتبط بشكل رئيس بالنمو السكاني.
ويضيف سالم لـ"طريق الشعب"، أن "المستشفى يعمل حالياً من موقع بديل يفتقر إلى المساحة الكافية لتقديم الخدمات اللازمة لمرضى السرطان في محافظة يصل تعداد سكانها إلى نحو 5 ملايين نسمة"، معللا "غياب أجهزة العلاج الشعاعي بسبب عدم اكتمال المستشفى الجديد، ما يُجبر المرضى على السفر لخارج المحافظة من اجل تلقي العلاج".
ويؤكد أن "هذه المشكلة ستُحل قريباً بعد الانتقال إلى الموقع الجديد المتوقع في غضون شهرين"، موضحا أن "العمل في المستشفى الجديد، الذي يُبنى بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والحكومة المحلية، قد وصل إلى نسبة إنجاز 98 في المائة، ومن المتوقع افتتاحه في شهر نيسان من العام الحالي".
ويبين أنه سيكون بسعة 100 سرير، ومجهز بأحدث التقنيات، بما في ذلك 3 أجهزة معجلات خطية حديثة وأجهزة متطورة لعلاج السرطان، كما سيضم المستشفى 33 غرفة مخصصة للعلاج بكبسولات اليود المشع، مصممة بعزل خاص لضمان سلامة المرضى والمحيطين بهم خلال فترة العلاج.
وفيما يتعلق بالأدوية والفحوصات المختبرية، يؤكد سالم أنها متوفرة، مشيراً إلى أن عام 2024 شهد استقراراً في توفير الأدوية السرطانية، بنسبة لم تقل عن 98 في المائة.
واختتم سالم حديثه بالتأكيد على أن المستشفى الجديد سيُحدث نقلة نوعية في الخدمات الصحية لمرضى السرطان، ليس فقط في الموصل، بل أيضاً للمحافظات المجاورة، مما يخفف العبء عن المرضى ويوفر رعاية طبية عالية الجودة.
تداعيات الحرب
أما الناشط البيئي سلام هستكاني فيرجع ارتفاع الإصابات بالأمراض السرطانية في المدينة الى تداعيات الحرب التي شهدتها الموصل خلال السنوات 2015-2017.
يقول هستكاني لـ"طريق الشعب"، إن "استخدام أسلحة محرمة دولياً، تحتوي على اليورانيوم، خلال العمليات العسكرية للتحالف الدولي، تسبب في تلوث بيئي خطير أثر على صحة المواطنين، إلى جانب ما خلفته الحرب من أزمات نفسية ومعيشية صعبة"، مضيفا أن "مولدات الديزل المنتشرة في الأحياء السكنية منذ التسعينيات تعد أيضا مصدرًا رئيسيًا لتلوث الهواء، الى جانب عوادم المركبات التي تستخدم وقوداً غير مطابق للمعايير البيئية".
ويشير هستكاني إلى، أن أزمة النفايات المتراكمة في شوارع الموصل، وفي مواقع طمر غير نظامية، تعد من الأسباب الرئيسية لتلوث التربة والمياه الجوفية. كما أن عمليات حرق هذه النفايات تنشر أدخنة ضارة تؤثر على الهواء المحيط.
البنية التحتية "بدائية"
ويضيف، أن البنية التحتية للصرف الصحي في المدينة ما زالت بدائية، حيث يعتمد السكان على خزانات أرضية لتصريف المياه الثقيلة، ما يؤدي إلى تسربها للمياه الجوفية، فضلًا عن تدفق مياه المجاري بشكل مباشر إلى نهر دجلة، الذي يُعد المصدر الرئيس للمياه التي يتم ضخها للسكان.
ويشير هستكاني إلى أن العديد من المواد المتوفرة في الأسواق المحلية تتسبب في أمراض خطيرة، بجانب الاستخدام العشوائي والضار للمواد البلاستيكية في الحياة اليومية.
ويبين، أنّ التحديات الصحية في الموصل لا تقتصر على الأمراض البيئية فقط، بل تتفاقم بفعل تلكؤ القطاع الصحي وارتفاع تكاليف العلاج في القطاع الخاص.
ويقول إن "المرضى في الموصل يعانون من غياب التخصصات الطبية وضعف الخدمات في المستشفيات الحكومية، ما يدفع الكثيرين للسفر إلى مدن أخرى مثل أربيل أو بغداد لتلقي العلاج، وهو أمر مرهق مادياً ونفسياً. القطاع الخاص بات خياراً مكلفاً، لا يستطيع الجميع تحمله، خاصة في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة".