تحولت مياه الشرب في محافظة ميسان إلى مصدر قلق يومي لسكانها، بعد أن بلغت مستويات التلوث حدا غير مسبوق، ما دفع بالأهالي إلى استخدام مياه التحلية "ارو" المخصصة للاستهلاك البشري لسقي المواشي، في مشهد يعكس عمق الأزمة البيئية.
المياه التي تمر عبر نهر دجلة إلى ميسان تصل مثقلة بالملوثات ومخلفات الصرف الصحي والمبازل الزراعية، وسط انخفاض حاد في الإطلاقات المائية، ما أدى إلى تراجع جودة المياه وتهديد مباشر للصحة العامة والتنوع البيئي في المحافظة. وبالرغم من وجود اطلاقات مائية الا ان مراقبين وصفوا هذه بأنها ترقيعية.
ميسان تنتظر معالجات حقيقية
وحذر مستشار لجنة الخدمات العامة في مجلس محافظة ميسان، منتظر السيد نور، من تدهور خطر في نوعية المياه بمحافظة ميسان، مشيرًا إلى أن الوضع المائي خلال الفترة الماضية كان سيئًا للغاية، نتيجة لعوامل بيئية وإنسانية متداخلة.
وقال السيد نور في حديث لـ"طريق الشعب"، إن "قلة الإطلاقات المائية في عمود نهر دجلة المار بالمحافظة، بالإضافة إلى كثرة الملوثات الناتجة عن محطات الصرف الصحي التي تلقي مياهها دون معالجة، ومخلفات المبازل الزراعية التي تحتوي على مركبات الأسمدة الكيميائية، كلها ساهمت في رفع نسب التلوث".
وأضاف أن هذه العوامل أسفرت عن زيادة معدلات العكورة في المياه، وانتشار أنواع متعددة من الطحالب، منها الطحالب الخضر-المزرقة التي تُفرز السموم، والطحالب الخيطية التي تسببت بتعطل الفلاتر المنزلية، خصوصًا في نهاية عام 2024.
وأوضح أن "معدلات المواد الصلبة الذائبة (TDS) في المياه سجلت أرقامًا مقلقة، إذ بلغت قرابة 4000 ملغم/لتر في نهر المشرح، وتجاوزت 2500 ملغم/لتر في مناطق أخرى مثل ناحية السلام وقضاء الميمونة، في حين أن المعدل الطبيعي يجب أن لا يتجاوز 1000 ملغم/لتر كحد أعلى".
وأكد السيد نور أن "العاصمة بغداد تصرف ما يقارب 700 ألف متر مكعب يوميًا من مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى نهر دجلة، ما يفاقم الأزمة التي تمتد عبر واسط وصولاً إلى ميسان، وتؤثر سلبًا على جودة المياه المستخدمة في الزراعة".
وتابع أن "مياه المعالجة بالتناضح العكسي (ارو) أصبحت تُستخدم فقط لسقي المواشي، خاصة في ذيول الأنهر حيث تصل المياه بنسب ملوحة مرتفعة"، محذرا من تفاقم تأثير امتداد اللسان الملحي من شط العرب، والذي أدى إلى تدهور الأراضي الزراعية ونفوق الأسماك والحيوانات في بعض مناطق المحافظة.
ورغم الإشارة إلى تحسن نسبي في وضع المياه بعد الإطلاقات المائية الأخيرة، بيّن السيد نور أن "تلك الإطلاقات لم تكن
موجهة لمعالجة أزمة ميسان بشكل مباشر، بل جاءت ضمن جهود الحد من أزمة اللسان الملحي في شط العرب بمحافظة البصرة"، مضيفا أن "ميسان لم تشهد حتى الآن أي تدخلات فعلية أو عاجلة لمعالجة الوضع البيئي المتدهور".
وأشار إلى أن "مناطق الأهوار لم تشملها الإطلاقات المائية رغم أهميتها البيئية، كونها مدرجة على لائحة التراث العالمي ومشمولة باتفاقيات دولية"، محذرًا من تهديد حقيقي للتنوع الأحيائي في ميسان نتيجة شح المياه والإهمال الحكومي.
التلوث يتجاوز ٨٠ في المائة
فيما قال الناشط البيئي الميساني مرتضى الحنوبي، إن "التلوثات المائية في مدينة العمارة باتت مصدر قلق حقيقي، خاصة وأنها تمثّل الامتداد الأخير لما يُعرف بـ(أذناب الأنهار)، وهي الفروع التي تتغذى من نهر دجلة بعد مروره بعدة محافظات، تبدأ من بغداد وما بعدها".
وأوضح الجنوبي أن "النهر يمر على العديد من المنشآت الصناعية والمستشفيات والمصادر الملوثة، ما يجعله محملاً بالمخلفات والمواد السامة عندما يصل إلى العمارة، ثم يتفرع ليغذي مناطق متعددة مثل قضاء الكحلاء وناحية المشرح والسلام والميمونة والمجار وغيرها".
وأشار إلى أن "نسب التلوث وصلت بحسب دراسات ميدانية إلى أكثر من 80 في المائة في بعض المناطق، وهي نسب مرتفعة جداً، تعكس حجم الكارثة البيئية الممتدة على طول مجرى النهر".
وبين أن "السبب الرئيس في تفاقم هذه التلوثات هو قلة الإطلاقات المائية، والتي تراجعت بشكل حاد خلال السنوات الثلاث الأخيرة بسبب موجات الجفاف المستمرة، حيث باتت الإطلاقات من سدة الكوت إلى العمارة لا تتجاوز 120 متر مكعب بالثانية، وهي كمية غير كافية لدفع الملوثات أو تخفيف تركيزها".
وأضاف أن "الوضع في نهر المشرح وقضاء الكحلاء خير مثال على خطورة الوضع، إذ تصل الإطلاقات في بعض المناطق إلى أقل من 15 متر مكعب بالثانية، وهو رقم ضئيل جداً مقارنة بالحاجة الفعلية
واختتم الجنوبي بالقول: "ما لم تكن هناك زيادة جدية في الإطلاقات المائية ومعالجات فورية لمصادر التلوث، فإن الوضع سيستمر في التدهور، والمخاطر البيئية ستتضاعف مع كل عام يمر".
المشرح يعاني من مياه المجاري
من جهته، اكد سكرتير اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في المحافظة، الرفيق علي السفير إن محافظة ميسان، تعاني من تفاقم أزمة تلوث المياه، لا سيما في الأنهار الفرعية مثل نهر المشرح، نتيجة لتراكم عدة عوامل بيئية وبشرية أثرت سلباً على الصحة العامة والنظام البيئي".
وأضاف لـ "طريق الشعب"، أن "أحد أبرز أسباب هذا التلوث هو قيام بعض المستشفيات والمعامل برمي نفاياتها السائلة والصلبة مباشرة في المجاري المائية دون معالجة، ما يؤدي إلى تلوث خطير بمسببات الأمراض والمواد الكيميائية السامة، ويُسهم في انتشار الأمراض الجلدية والمعوية، إضافة إلى تأثيره الكبير على التنوع البيولوجي في المياه".
وتابع السفير أن "قلة الإطلاقات المائية أسهمت في تفاقم الأزمة، حيث تعاني الأنهار، خصوصاً نهر المشرح، من انخفاض حاد في منسوب المياه نتيجة تراجع الحصص المائية من أعالي النهر وضعف إدارة الموارد المائية، ما يزيد من تركيز الملوثات ويقلل من قدرة النهر على تجديد نفسه طبيعياً".
وأكمل حديثه قائلاً: ان "الصرف الصحي غير المعالج يمثل عاملاً خطراً أيضاً، إذ يتم تصريف مياه المجاري في كثير من المناطق مباشرة إلى الأنهار دون معالجة، ما يزيد من التلوث العضوي ويؤدي إلى تكاثر الطحالب وتدهور جودة المياه".
وأكد أن "الآثار البيئية والصحية لهذه الأزمة كارثية، بدءاً من تراجع حاد في الثروة السمكية وانقراض بعض الأنواع المحلية، مروراً بانتشار الأمراض المرتبطة بالمياه الملوثة كالإسهال المزمن والتسمم وأمراض الكبد، ووصولاً إلى نفوق الحيوانات التي تعتمد على مياه النهر، وتلوث الأراضي الزراعية نتيجة استخدام مياه غير صالحة في الري".
واختتم السفير بالقول إن "استمرار تلوث المياه في محافظة ميسان يمثل تهديداً مباشراً لحياة الإنسان والبيئة، ولا بد من تكاتف الجهود الحكومية والمجتمعية للحد من هذه الأزمة واستعادة النظم البيئية المتدهورة".