اخر الاخبار

قد يتحول مشوار يومي بسيط إلى لحظة تهديد صامتة، فقط لأن المجتمع لا يزال يغض الطرف عن ظاهرة التحرش. وبرغم شجاعة عدد من الفتيات في كسر حاجز الصمت من خلال الحديث العلني على منصات التواصل الاجتماعي أو تقديم شكاوى رسمية، إلا أن كثيرات ما زلن يترددن في الإفصاح عما يتعرضن له، في ظل وجود عقل جمعي يُكرس ثقافة الصمت، ويُحمّل الضحية مسؤولية ما جرى، بدلاً من محاسبة الجاني.

وبدأت الفتيات، أخيرا، استخدام أسلوب الرصد والتوثيق لكشف ما يتعرضن له من تحرش، خصوصاً في وسائل النقل العامة وأماكن العمل. هذه الخطوة جاءت كرد فعل على تقاعس مؤسسات الدولة، وغياب مسارات واضحة للإنصاف. كما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بشهادات عن تحرش وابتزاز طالت طالبات في مؤسسات تعليمية ونساء من الوسط الإعلامي والفني، كاشفة عن شبكة من الانتهاكات المسكوت عنها، وعجز في النظام القانوني عن ملاحقة الجناة أو ردعهم.

لكن السؤال الأهم، هل كانت هذه القصص ستظل مخفية لولا وجود منصات التواصل الاجتماعي؟ ولماذا لا تتحرك الجهات الرسمية إلا بعد أن تتحول قضية ما إلى "ترند"؟ هذا الواقع يضع علامات استفهام كبيرة حول جدية مؤسسات الدولة في حماية النساء، ويكشف أن العدالة باتت مرهونة بضغط الجمهور، لا بنص القانون.

قصة تحرش

وتتحدث إحدى الفتيات عن تجربة عاشتها برفقة طفلتها الصغيرة، لتكشف عن حجم الخطر الذي يمكن أن تتعرض له النساء حتى في أبسط تفاصيل الحياة اليومية، مثل ركوب سيارة أجرة!

تقول الفتاة: انها "في أحد الأيام، كنت مستعجلة وأخذت ابنتي للطبيب. لم أطلب سيارة عبر التطبيقات كعادتي، بل استوقفت سيارة أجرة من الشارع. ما إن ركبت، حتى بدأ السائق يطرح أسئلة شخصية، وسألني إن كانت الطفلة ابنتي، فأجبته: نعم. ليرد قائلاً: أنتِ حلوة وصغيرة، ما عبالي متزوجة، ثم بدأ يعرض علي رقمه، قائلاً: إذا تحتاجين تكسي، أنا موجود، وكان يتحدث وهو يلتفت إليّ باستمرار".

وتضيف أن "الخوف بدأ يتصاعد لدي مع كل دقيقة تمضي خاصة بوجود طفلتي معي. عندما اقتربنا من المستشفى رأيت مجموعة من الشباب فطلبت من السائق أن ينزلني هناك، لكنه رفض في البداية وقال: هذا ليس المكان الذي ذكرتيه. أصريت وما إن توقفت السيارة، فتحت الباب بسرعة ونزلت، وأخبرت الشباب بما حصل".

"ردة الفعل كانت سريعة. أحدهم أمسك بالسائق الذي بدا عليه الخوف الشديد، فيما غادرت انا المكان".

لا ينحصر التحرش في الشارع بل حتى في مؤسسات العمل والتعليم، وسط غياب إجراءات رادعة وآليات فعالة للشكوى، وهذا ما يدفع الضحايا للصمت أو خسارة وظائفهن، في وقت يُفلت فيه المتحرشون من العقاب.

بيئة عمل طاردة

فتاة أخرى تقول إنها اضطرت لترك العمل ثلاث مرات في أماكن مختلفة بسبب تعرضها لمضايقات مستمرة، مؤكدة أن البيئة لم تكن آمنة، وأنها لم تجد طريقة لحماية نفسها سوى بالانسحاب. وعند سؤالها عن سبب عدم التبليغ أو اللجوء إلى القانون، أجابت: "كنت أخاف الحديث حتى لأهلي، أخشى من إساءة الفهم وردة الفعل السلبية لديهم".

وتضيف: "كل مرة أترك الشغل بدون ما أوضح السبب الحقيقي، وأتحمل اللوم وحدي".

هذه التجربة، كغيرها من الشهادات التي ظهرت في الفترة الأخيرة، تكشف عمق الأزمة التي تعيشها نساء كثيرات في بيئات العمل، حيث تتكرر المضايقات في ظل غياب الحماية، ويُفرض على الضحايا الصمت خشية فقدان السمعة أو التعرض للاتهام بدلاً من الإنصاف.

الصمت.. خيارهن الأفضل!

تقول الناشطة النسوية جنان السراي حول تنامي ظاهرة التحرش بالنساء داخل المؤسسات العراقية: إن "غياب البيئة الآمنة يشجع الضحايا على الصمت ويمنح المتحرشين حصانة غير مستحقة".

وتضيف السراي لـ "طريق الشعب"، أن "أغلب النساء يخشين من تقديم الشكوى، وليس لديهن معرفة واطلاع بالقانون"، مؤكدة أن كثيراً منهن يتعرضن يومياً لحالات تحرش ومساومة في أماكن العمل أو المؤسسات التعليمية، لكن الخوف من العواقب المجتمعية، وردود فعل الأهل، وحتى خسارة الوظيفة أو السمعة، يجعل الصمت خيارهن الوحيد".

وتشير الى أن هذا الصمت لا يعني غياب الجريمة، بل هو ما يُبقي المتحرشين في مواقعهم، ويمدّهم بشرعية زائفة تمكنهم من تكرار أفعالهم مع ضحايا جدد، مؤكدة أن المجتمع كثيراً ما يُحمّل الضحية عبء ما تعرضت له، بدلاً من مساءلة الجاني، ما يخلق بيئة غير آمنة ويكرّس ثقافة الإفلات من العقاب.

وفي ظل هذا الواقع، تدعو السراي إلى ضرورة إيجاد قانون فاعل يحد من ظاهرة التحرش في أماكن العمل، ويُعاقب مرتكبيها بوضوح وفق ما نص عليه الدستور العراقي.

وتطالب بتفعيل الآليات القانونية والإدارية لحماية الضحايا وتوفير قنوات آمنة للإبلاغ والدعم.

غياب آليات التبليغ الآمنة

الناشطة النسوية والعمالية فرقان نصيف تقول إنّ "ظاهرة التحرش في بيئات العمل لا تحدث بمعزل عن السياق العام، بل تتغذى من شبكة معقدة من العوامل القانونية والمجتمعية التي تكرس استمرارها وتعرقل مواجهتها الفعالة".

وبالحديث عن الجانب القانوني، ترى نصيف أن "المشكلة تبدأ من ضعف تطبيق القوانين، خاصة في القطاع الخاص، حيث لا تتوفر لدى العديد من العاملات المعرفة الكافية بحقوقهن، كما يجهلن آليات التبليغ والجهات المسؤولة عن حمايتهن". وتوضح أن هذا القصور لا يعود فقط لغياب الوعي، بل أيضاً لغياب أو ضعف آليات التبليغ الآمنة والواضحة داخل مؤسسات العمل. كما تنتقد تقصير الجهات الرسمية، في توفير قنوات فعالة تحمي العاملات من الانتهاكات وتحفظ كرامتهن المهنية والإنسانية".

وفي السياق المجتمعي، تشير نصيف في حديثها لـ "طريق الشعب"، إلى أن "الثقافة السائدة تسهم بدور كبير في ترسيخ التحرش، من خلال إلقاء اللوم على الضحية وتبرير سلوك الجاني. هذا الواقع يدفع العديد من النساء إلى الصمت، خشية فقدان وظائفهن، أو التعرض للعزل المهني والاجتماعي، أو حتى التهديد المباشر من قبل المتحرش نفسه".

وتشير الى أن هشاشة وضع المرأة العاملة تتفاقم مع غياب الوعي المجتمعي بالقوانين، وهذا نتيجة مباشرة لضعف الحملات التوعوية التي يجب أن تضطلع بها الجهات الرسمية، والنقابات، والمنظمات العمالية.

وتجد ان "معالجة التحرش في أماكن العمل لا تقتصر على سن القوانين، بل تتطلب تطبيق فعليا لها، إلى جانب إنشاء وتفعيل آليات تبليغ حقيقية وآمنة داخل بيئات العمل"، كما تشدد على ضرورة إحداث تغيير جذري في الثقافة المجتمعية التي تبرر الانتهاك وتلوم الضحية.

وتختتم نصيف حديثها بالتأكيد على أن أي مقاربة فعالة لحل هذه الظاهرة يجب أن تكون شاملة، وتقوم على تفعيل القانون، وتوفير بيئة آمنة للتبليغ، وتغيير المفاهيم المجتمعية الخاطئة، بما يضمن كرامة النساء العاملات ويعزز من قدرتهن على العمل في بيئات آمنة ومحفزة. 

قوانين لا تردع!

وعالج القانون العراقي مشكلة التحرش عبر المواد القانونية المرفقة بقانون العقوبات (400، 401، 402) التي تعود إلى العام 1969 وجاءت تحت عنوان الجرائم المخلة بالآداب، ولم يتم تعديلها منذ ذلك الوقت. وتشمل المواد القانونية أعلاه عقوبة المتحرش التي لا تزيد عن الغرامة المالية أو الحبس مدة تترواح ما بين 3 أشهر – عام واحد.

ويشير الخبير القانوني مصطفى البياتي الى أن القوانين العراقية الحالية المتعلقة بالتحرش لم تعد تواكب طبيعة الجريمة ولا تعكس حجم الأذى الذي تسببه للضحايا. ويؤكد أن "المنظومة القانونية ما زالت أسيرة نصوص وُضعت قبل أكثر من خمسين عامًا، في وقت تغيّر فيه كل شيء تقريبًا باستثناء التشريعات".

وفي حديث لـ "طريق الشعب"، يقول البياتي أن "العقوبات المنصوص عليها، والمحدودة بالغرامة أو الحبس لفترة قصيرة، لا تُشكل أي رادع فعلي للمتحرشين، بل تمنحهم شعورا بالإفلات من العقاب".

ويضيف انه "حتى في حال رغبت الضحية بتقديم شكوى، فإنها تصطدم بعقبات قانونية تجعل إثبات الجريمة أمرا بالغ الصعوبة، إذ يُشترط وجود شهود عيان  وهو أمر نادر الحدوث في حالات التحرش التي غالبا ما تقع في أماكن مغلقة أو بطرق يصعب توثيقها".

ويؤكد البياتي، أن الأدلة الرقمية مثل الرسائل أو التسجيلات الصوتية، لا يُعتد بها في معظم المحاكم العراقية، مما يُسقط أدوات مهمة من يد الضحية، ويتركها دون حماية فعلية، معتقدا انه "ليس غريبًا أن تتردد النساء في الإبلاغ، فالقانون لا يضمن لهن الإنصاف، والمجتمع يعاقبهن مرتين: مرة على الجريمة، ومرة على الحديث عنها".

عرض مقالات: