مازلت اتذكر جيدا كيف كنت طفلا قرويا الوذ خلف عباءة امي وهي تصنع من خوص النخل وجريده ادوات تفيدها في المنزل مثل (الجلة) لخزن الملابس و (الگفة) لتخزين القوت كالشاي والسكر و (الطبگ) الذي نضع فيه وجبة الطعام او اقابلها وهي تدير بكفيها السمراوين (الرحة) لتطحن ما تيسر من حبات الحنطة وغيرها من أدوات تتسم بالبساطة والجمال للاسف باتت الان غير موجودة الا في الذاكرة، اكل عليها الدهر وشرب نتيجة التطور التكنولوجي واهمال الانسان لها.
أشياء من الماضي
غارق في الصمت المطبق، يداعب لحيته البيضاء باصابعه النحيفة، وينظر بين عيني مستذكرا ذاك الماضي البعيد بتفاصيله التي باتت لا مقر لها غير ذاكرة متعبة، ثم تحسر قبل أن يشاركني الحديث حول ما حل بتراث الآباء والاجداد قبل هذا التطور، قال عبدالله مجيد السعيدي (71 سنة): لقد اندثر ذلك التراث الشعبي تدريجيا وتزامنا مع التطور الذي اخذ يخيف البشرية خصوصا وان اغلب العلماء والخبراء لم يخفوا مخاوفهم من قدوم اليوم الذي تسيطر فيه التكنولوجيا على الحياة برمتها ويصبح الانسان رهينة صناعته.
واضاف هذا الكهل الذي انتقل من القرية الى المدينة في وقت متأخر: ان تراثنا قد قضينا عليه بأيدينا بعد أن هيمن التطور برفاهيته على عقولنا، فمثلا اتذكر ان اخي الاصغر رمى في الشط (رحة الطحن) التي ورثتها امي عن جدتي وقمت انا بتحويل (المحراث الزراعي) الى حطب عندما صرنا نجلب اكياس الطحين من المدينة واستبدلنا (سجاد المضيف) المصنوع يدويا بالفرش الحديثة وحتى (الهاون) هجرناه بعد ان وجدنا سهولة الحصول على القهوة المطحونة صناعيا وغيرها من اخطاء اشعر بالأسف عندما اتذكر فعلتنا بها.
لجنة شعبية لحماية التراث
وبما يخص الدور الذي تلعبه اللجنة الشعبية لحماية الآثار والتراث اكد الباحث جميل غركان نعاس: إن حماية التراث تقع على عاتق الدولة والمجتمع في آن واحد لاهميته لكليهما حيث على الدولة وضع سياسة معينة لحماية التراث من خلال برامجها وخططها السنوية لاعطاء التراث وظيفة في حياة المجتمع والتصدي للاخطار التي تهدد التراث بعد تحديد مواقعه بوسائل علمية وتقنية حديثة وتدريب الكوادر المختصة لهذا الغرض، مضيفا: إن التراث يسهم في تعزيز الاقتصاد الوطني والمحلي خاصةً من خلال تنشيط السياحة الداخلية والخارجية، مشيرا الى ان التراث يتعرض حاليا الى العديد من التهديدات التي تسبب له الدمار لذا لابد من مواجهة هذه التهديدات من خلال تضامن دولي وقوانين اممية خصوصا اننا امام تهديد التطور الصناعي والتكنولوجي الذي ادى الى اضمحلال كثير من الجوانب التراثية وادى الى اختفائها مثل الصناعة اليدوية. مشددا على ضرورة المحافظة على التراث الذي يعد مجموعة تقاليد وآثار وثقافة موروثة منها ما يدخل الانسان في ايجاده مثل الابداع الفني والمعماري والادبي وآخر يكون تراثا طبيعيا مثل المكونات الفسيولوجية والجيولوجية.
نجاحات متواضعة
وعن الدور الذي يلعبه مركز الذاكرة الموسوعية في محافظة الديوانية بالحفاظ على التراث الشعبي وما استطاع تحقيقه خلال السنوات الماضية قال مدير المركز علي نوري: ان الجهود المضنية التي بذلها مركز الذاكرة الموسوعية في الديوانية بخصوص جمع ما امكن من التراث الشعبي والثقافي تكللت بنجاحات وان كانت هذه النجاحات متواضعة مقارنة بالمفقود من تراثنا الذي لا يقدر بقيمة مادية، مضيفا ان المركز تمكن من الحصول على المئات من الكتب والصور والآلات والاواني القديمة من بينها المدفع الوحيد الذي غنمه الثوار في ثورة العشرين من القرن الماضي من الجيش الانكليزي وعدد من الراديوات التي تعود الى فترة اكتشاف الراديو وصور ووثائق ورسائل نادرة لشخصيات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عمرها اكثر من قرن وغيرها من متعلقات تراثية تحكي تاريخ الديوانية عبر مراحل مختلفة. وشدد نوري على ضرورة أن تكون هناك خطوات سريعة واجراءات قوية لتوثيق التراث العراقي والمحافظة عليه من كل التحديات التي تحيط به خصوصا تحدي التكنولوجيا وعبث غير العارفين باهمية هذا الموروث الشعبي العراقي الاصيل.
إصدار أول موسوعة في الديوانية
وعن ابرز ما حققه المركز مؤخرا قال نوري: ان الجهود التي بذلت من قبل المركز بخصوص توثيق تاريخ الديوانية تكللت بموافقة محافظ الديوانية زهير علي الشعلان على اصدار موسوعة تعنى بتأريخ الديوانية السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاعلامي والثقافي والرياضي وستكون هذه الموسوعة التي حملت اسم ( موسوعة الديوانية الحضارية) هي اول موسوعة تصدر عن هذه المدينة الغنية بتاريخها. مشيرا الى أن اللجان التي تشكلت لكتابة تاريخ الديوانية ضمت شخصيات تتمتع بشهرة واسعة في اختصاصاتها ولها اصدارات إبداعية ومطبوعات تعنى بالتراث الشعبي وقد عقدت عدة اجتماعات لوضع الآليات التي من خلالها تتم كتابة (موسوعة الديوانية الحضارية) واخراجها الى الضوء لتكون المرجع الاهم للباحثين وطلبة العلم.
حملة لحماية التراث
اما بخصوص الحلول التي تحقق الرغبة بحماية التراث الشعبي من الضياع والاندثار خصوصا ان اغلب مقومات البقاء اخذت تتلاشى فان مدير اذاعة الديوانية الاعلامي عيسى الكعبي اكد امكانية تحقيق الحماية الكافية لتراثنا الشعبي من دون اتخاذ خطوات سريعة منها مباشرتنا باطلاق حملة اعلامية واسعة لتثقيف الناس باهمية الحفاظ على تراث الآباء والاجداد وانشاء متحف نظامي لعرض هذا التراث والترويج الفعلي لموروثنا ومطالبة المنظمات والمؤسسات الدولية والمحلية بمد يد العون والمساعدة لتحقيق هذا الهدف ودعوة المواطنين الذين يحتفظون بتراث اسرهم الى التبرع به لعرضه في المتحف، مضيفا: ان العديد من الاسر العريقة في محافظة الديوانية تحتفظ باشياء مهمة تعود لحقب زمنية بعيدة تذكرهم بتاريخ اسرهم ومن الافضل أن تجد لها مكانا افضل كالمتحف الذي ننشده.