اخر الاخبار

من الصعوبة بمكان لقارئ مثلي الامساك بكل مفاتيح خزائن مظفر النواب مرة واحدة ، فهو شاعر استثنائي ، واستثنائيته تجعل الباحث المتفحص يفكر مرة وأخرى قبل الإقدام على ادعائه بالوصول إلى ذلك الفردوس.

في قراءتي الأولى لـقصيدة “حجام البريس” منتصف سبعينيات القرن الماضي، لم أخرج بشيء سوى الاندهاشة. تلك الاندهاشة التي تشبه إلى حد كبير اندهاشة طفل برؤية عصفور في الفضاء الواسع، وقد غاب عن عينيه بلمحة بصر. ومرّت الأيام والسنون واذا بي أعود ثانية وثالثة لأكتشف أنني أمام عمل شعري أسطوري .. لا يمكن ان تقارن به الأعمال اليومية العابرة.

ولاشكّ بأن موضوع الثورة والتحريض من الموضوعات البارزة والمهمة في الحقبة العراقية الحديثة ؛ لأنّ الشاعر العراقي عاش الثورات والانقلابات , وحرّض عليها , وتمرّد , ونوّر الناس ، وتغنى ببطولات الأبطال منهم. فقد كان الجزء الأساس والمهمّ في تحريض الناس ضد الظلم والطغيان الذي سرى على الإنسان والوطن على حد سواء.

ومظفّر النواب شاعر ثوري مديني، فهو ابن بغداد، ولقد كان الهور بالنسبة له محطة جهاد مؤقتة. ومن المفارقة أنه استطاع أن يستقلّ ويؤسس له قاموسا باللغة العامية لا يجاريه قاموس .. على الرغم من مكوثه غير الطويل في الجنوب، والذي شكّل منه لغته تلك.

ولا شكّ بأن البعد الثوري رافق تجربة النواب الشعرية، كما لا شكّ بأن سمة ولغة التحريض ضد التسلّط والإذلال والقمع شاخصة في قصائده. فنموذج المناضل والبطل الثوري هو المثال، ومنه يؤسس لقصيدته. منه ومن المواقف التي يتعرض لها المثال. ومن المواقف التي يقوم بها يخلق أسطورته الشعرية المستلة من واقع خبره النواب نفسه.

ومن أولئك الأبطال حجام البريس. يقول:

“سالوفتنه عن فلاح مثل كل الفلح

اخته اسمهه (سعيده)

من هور الغموكه

بعد سنه تعرس

والمفارز طوكت بالليل أخوهه

وجانو الحوشية والشرطة الف

والحرة ما خافت

عمرهه 17 سنبلة

صاحت..

يا جبير الهور.. يا ابن الشلب

يا حجام

رَد الهور يسمع

يا جبير الشلب

يا حجام”

قصيدة حجام البريس من بين قصائد النواب هي الواقعة/ الحدث/ المشهدية/ التحريضية، فلا غرابة أن يستنفر النواب عددا من أدوات النداء مرة واحدة: يا جبير الهور، يا ابن الشلب ، يا حجام ، يا جبير الشلب ، يا حجام، طرقاً على فكرة التحريض والاستنهاض والثورة وشدّ العزم ، معتمدا الحكاية وروح القص ، ومسندا فكرة التحريض والاستنهاض إلى الأخت سعيدة ، ومشددا ثانية على النداء بوصفه واحدا من الأساليب التي تضمر في طياتها روح التحريض والترغيب معاً.

“لا يا خوي لا يا زين

لا تمشيش راك الراك

ما يستوحش التفاك

يا ابن الحرة

لا بد ما تفرخ الكاع

هذا اعراكَ

هذا اعراكنه الموصوف للعميان..

والميتين

يبن الحرة فك عينك ولا تغفل”

بطل قصيدة مظفر النواب أخذ أسطرته من الواقع ، ومن مجريات النضال العتيد الذي لا يستند إلى أية فكرة فنتازية. ولم يحمّل الشاعر شخصية حجام ما لا تحتمل، ولم يذهب بها إلى غير بيئتها المائية، ولغتها، ومكابداتها ، وألمها، الأمر الذي يؤشر حالة شدّة قرب الشاعر من الشخصية ، واستيعابه ، واحاطته بظروفها المادية والنفسية على حدّ سواء”.

ففي قصيدة/ ملحمة ( حجام البريس) على رأي الدكتور حسين سرمك .. يأتي العنوان كالعادة بسيطا مستلاً من القصيدة و( حجام) هو اسم بطل القصيدة.. بطل انتقاه الشاعر، كعادته من صفوف الفلاحين المتعبين المضطهدين ، يتصدى لقوى الطغيان والاقطاع ، حاله حال أبطال آخرين جسّد الشاعر نضالهم في قصائده مثل صويحب ، أو سعود ، أو لعيبي ، أو غيلان وغيرهم. وفي كل هذه النصوص يأتي اسم البطل المنتقى: شعبياً شائعا في أرياف العراق وأهواره لتعزيز مصداقية ( الحكاية) وحرارتها”. ولذلك فإن المتلقي لا يحار في اسناد القول:

“أواكح جني ايد تفوج

أشوغ أويلشمس ليفوك

مكتوب ابلاويهه

التحفر بيه مساحيهه”

إلى مظفّر النواب نفسه ، لشدة تمثله لموضوع القصيدة وبطلها ، ومعايشته ، وقربه الروحي والايديولوجي منها. كما يمكن اسناد القول مار الذكر إلى حجام البريس( أواكح / ودلالة عود الضمير على المتكلم الذي يحتمل الاثنين ، الشاعر وبطله المثال. وبذلك فإن أسطرة البطل في قصيدة النواب لم تتناقض مع بعده الأرضي وقاعه الاجتماعي كما في قوله:

“أبوس ايد اللي يسكي الناس

ويحمل تمر ، وسلاح ، ورصاص

بشرايعهه

بطرك ثوبه ، وبايعهه”

فقد نجح النواب في استدعاء البعد اللغوي ، والبعد المكاني ، والبعد النفسي المناسب للبطل ، هذه الأبعاد مجتمعة عملت على ترسيخ فكرة التحريض التي غالبا ما تكون الهدف الأساس من كتابة القصيدة، وأسطرة البطل في وقت واحد.

عرض مقالات: